قصتي في طلب العلم – الشيخ عبدالله العقيل
قصتي في طلب العلم – تأليف سماحة الشيخ – عبد الله بن عبد العزيز بن عَقيل العَقيل -(أصله لقاء في جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بالرياض سنة 1427) بتقديم ومحاورة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان) نُشر ضمن كتاب (مجموع فيه من آثار سماحة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل في الذكريات والتاريخ والتراجم) نُشر بإذن خاص من مؤلف المجموع
مقدمة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
علم التراجم علم مستقل بذاته، والمكتبة الإسلامية شاهدة بعشرات، بل بمئات، إن لم تكن بألوف التراجم في أنواع مختلفة.
فهناك فنٌّ للتراجم يتعلق بزمان معين، ومن أمثلة ذلك: كتاب الدرر الكامنة لابن حجر في أعيان المائة الثامنة، والبدر الطالع للشوكاني.
وتارة تكون التراجم متعلقة بمكان معين، ومن شواهد ذلك: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لعلي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، وتاريخ دُنَيْسر، وتاريخ الموصل للأزدي، وتاريخ إربل.
وتارة تكون التراجم متعلقة بمذهب معين، كطبقات الحنابلة للقاضي ابن أبي يعلى، وذيلها لابن رجب، وطبقات الشافعية للسبكي، وكذا شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، وكذا الطبقات السنية في تراجم الحنفية.
وتارة تكون التراجم في فن معين من العلم، كطبقات الحفاظ للإمام الذهبي، وكمعرفة القراء الكبار للإمام الذهبي، وكطبقات المفسرين للإمام الداودي.
وتارة تكون التراجم مقصورة على إمام معين، كمناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، ومناقب الإمام الشافعي كتب فيها ابن كثير والبيهقي وابن أبي حاتم الرازي وابن حجر، ومناقب الإمام أبي حنيفة لابن المكي، ومناقب الإمام مالك للزواوي.
وتارة يكتب المؤلف ترجمة لنفسه، يضمنها في كتابٍ في ضمن تراجم، ككتاب رفع الإصر لابن حجر، فقد ضمّن ترجمته في كتابه هذا، أو كالسخاوي في الضوء اللامع.
وتارة تكون الترجمة مستقلة في كتاب معين، كما فعل السيوطي، وكنا فعل تلميذه محمد بن طُولون.
ومن المعلوم في كتب أدب الطلب فضلُ الرحلة في لقي كبار المشايخ، حتى قال الخطيب رحمه الله: لا ينبغي للطالب أن يرحل عن بلده حتى يأخذ عن كبار مشايخها وعن أعلام علمائها أو عن رؤوس علمائها.
وقد كان المحدثون وطلبة العلم يرحلون الأيام الطويلة، بل الشهور، في سبيل تحصيل إسناد عال، والإسناد العالي ما قلّت رجاله في الوصول إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وفي هذا اليوم نجتمع مع أحد كبار مشايخنا، وقد عرفه الجميع من خلال مقالاته الذهبية في مجلة الدعوة، سواء الفتاوى والمقالات، أو من خلال فتح صدره قبل بيته لاستقبال كل راغب، كل راغب! سواء كان من داخل الرياض أو من خارج المملكة: الشيخ العلامة الفقيه: عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل.
الشيخ عبد الله يكره المدح، وأعلم هذا منه كما ربانا عليه، وقد كتب أحد طلابه النجباء محمد زياد بن عمر التكلة كتابا في ترجمة الشيخ عبد الله، وفي ثبته: إجازاته ومروياته، وما قاله عنه مشايخه وأقرانه وطلابه، في ثبت سماه: «فتح الجليل في ترجمة وثبت شيخ الحنابلة عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل»[1]، فشكر الله للكاتب جهده، وما هذا إلا برٌّ يسير من حق شيخ كبير.
والشيخ عبد الله كما يعلم الجميع من أكبر المشايخ عِلماً وقَدراً، وله والحمد لله سمعة عند مشايخنا، حدثونا عنه قبل أن نراه، فزاد حبُّنا بعد أن رأيناه.
وسنتحدث في هذه الليلة عن ترجمة ذاتية علمية، نسأله فيها عن بداية طلبه للعلم، وبخاصة أن الله قد أفاء على الشيخ بالرحلة في نشر العلم، تولى القضاء في غير مكان، وأيضا عُني به علماء أجلاء، وبخاصة أن الشيخ العلامة الفقيه الأصولي المحدّث المفسر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي كان يُعنى بالشيخ عبد الله عناية خاصة، وجرى بينهما مكاتبات ومراسلات[2]، ويكفي أن تعلموا أن الشيخ قال عنه: كان يخصُّني ويحدثني بأمور لا أرويها، لأن الشيخ كان يأتمنه. وهذا دليل أن للشيخ حظوة عند الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى.
ومن باب رد الجميل إلى أهله أقول: إن الشيخ عبد الله حفظه الله تعالى هو الشيخ الثاني للعبد الفقير، وكان له عليّ فضل، كنت أتردد عليه منذ ثلاثين أو تسع وعشرين سنة، وأسأله، وكنت لا أجد إلا صدراً رحباً، ويشهد الله أني لا أنسى تربيته لي، في العام 97 و98 و1399، وله عليّ منّة لا أجزيه إلا بالدعاء، فقد كان السبب بعد الله في حظوتي عند الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله تعالى، فقد شرّفني بالاجتماع به، وحظاني بدعوات طيبة، واهتم بي شيخي الشيخ الإمام عبد الله بن حميد، والأجر للشيخ عبد الله بن عقيل أثابه الله تعالى، وكتبه في ميزان حسناته.
• نبدأ بطرح الأسئلة على شيخنا ووالدنا وعلامتنا الشيخ عبد الله، فنبدأ كما درج أهل التراجم في مصنفاتهم أن يتكرم الشيخ أثابه الله تعالى عن نبذة يسيرة مختصرة عن أسرته، وعن تأثير أسرته عليه تأثيراً علمياً، حتى يبدأ طرح الأسئلة المتتابعة والمستقبَلة من جهتنا، فليتفضل الشيخ مشكوراً:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأحمد إليكم الله تعالى، وأشكر لأخي الدكتور الشيخ عبد العزيز بن محمد السدحان؛ جزاه الله خيرا على هذا اللقاء الذي أتاحه لنا، لأجتمع بهذه الأوجه المباركة الطيبة في هذا المسجد المبارك، لنتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى؛ بعد أن صلينا هذه الصلاة الفريضة وما يتبعها، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبلها منا ومنك، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
والشيخ الدكتور عبد العزيز السدحان أعتبره تلميذاً وابناً بارًّا في آن واحد، عرفته منذ ثلاثين سنة، شابٌّ جادٌّ في طلب العلم، حريصٌ على الفائدة على صغر سنّه، بحوثه جيدة، وكثيراً ما ينبّهنا وقت الدرس على أشياء مهمة نغفل عنها أو نتجاوزها، وكثيراً ما نرجع إلى كلامه وتنبيهه عليها.
فأقول تجاوباً مع الأخ الدكتور الشيخ عبد العزيز:[3]
أنا الفقير إلى الله: عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل بن عبد الكريم آل عقيل، وُلدت في «عُنَيْزة» عام 1335، ونشأت في كنف والدي رحمه الله، وهو من علماء عنيزة وأدبائها وشعرائها المشهورين، له ترجمة مستقلة في كتاب «علماء نجد خلال ثمانية قرون»، و«روضة الناظرين»، وغيرهما، وقد أحسن تربيتي وتعليمي وتوجيهي، فهو أول أساتذتي.
كذلك أخي الشيخ عقيل بن عبد العزيز رحمه الله كان قاضياً في منطقة «جازان»، وكان يتعاهدني ويعلّمني.
فلما أني تجاوزت سن التمييز بدأت في طلب العلم وحفظ بعض المتون، فبدأت بحفظ شيء من القرآن وبمبادئ العلوم التي كان مشايخنا رحمهم الله يُلقنونها تلاميذهم، مثل: «ثلاثة الأصول»، و«كشف الشبهات»، و«الآجرّومية» في النَّحْو، وهي متن مبارك مختصر، مدخلٌ إلى جميع كتب النَّحْو على كثرتها، فهي من أنفع ما يكون لطالب العلم إذا حفظها وطبّقها، كذلك في «الرَّحَبية» في الفرائض، ومختصرات الفقه.
ثم دخلت مدرسة الأستاذ صالح بن صالح في البرغوش سنة 1348، واستفدت منه علماً جمًّا وفوائد عظيمة؛ من علوم وأخلاق وآداب وخط وحساب وغير ذلك، جزاه الله عنا خيراً.
ثم إن الشيخ عبد القرعاوي -رحمه الله- فتح عندنا مدرسة بجوارنا في بلدنا «عنيزة» في جانبٍ من بيته المعروف بالفَرْعي -«الفَرْعي» حارةٌ من حارات «عنيزة» من أوسطها- وصار يعلِّم الناس مجّاناً، مع أن المدراس الأخرى يأخذون أجراً على التلاميذ، وهو فتح مدرسته مجاناً، واهتم بالتلاميذ نصحاً وتوجيهاً وتعليماً، فكلّفنا نحفظ القرآن والمتون الصغار: «تُحفة الأطفال» في التجويد، و«الجَزَرية»، و«الأربعين النَّوَوية» في الحديث، وكذلك «آداب المشي إلى الصلاة»، و«كتاب التَّوحيد»، و«ثلاثة الأُصول»، و«كَشْف الشُّبُهات»، ونحوها، وذلك في عام 1348.
ثم بعد ذلك انتقلنا إلى مدرسة شيخنا العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، وكان شيخنا أُعطي فصاحة وبلاغة ونصحاً لطلابه، فحفظنا عليه القرآن، و«العُمْدة» في الحديث، و«بُلوغ المَرام»، و«زاد المُسْتَقْنِع» في الفقه، وقرأنا عليه الأمهات الست، و«كَشّاف القِناع»، و«منتهى الإرادات»، و«قواعد ابن رَجَب»، كل هذه كان رحمه الله يدرّسها ويشرحها لطلابه، و«العقيدة السَّفّارينية» حفظناها عن ظهر قلب، ونقرأ عليه في «فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» رحمه الله، أخذنا على هذا أربع سنين تقريباً.
ثم جاءنا أمرٌ إلزاميٌّ من الملك عبد العزيز رحمه الله بالسفر إلى «جيزان»، وذلك في شهر ذي القعدة 1353، وذلك أن الملك عبد العزيز أوعز إلى شيخنا عمر بن سِليم -رئيس مشايخ «القَصيم» في «بُرَيْدة»- بأن يختار عدداً من طلبة العلم لبعثهم إلى منطقة «جازان»، منهم الدعاة والقضاة والمرشدون والخطباء والأئمة، لأنه بعدما هدأت حركةُ الأدارسة في تلك الجهة وتدخل الإمام يحيى بن حميد الدين في تلك البلدان، وصار هناك مناوشات، تجهز لها الملك فيصل من جهة الساحل، والملك سعود من جهة «أَبْها»، وحصل عدة معارك، وانتصر فيها السعوديون، حتى وصلوا إلى «الحُدَيْدة» وما وراءها، ثم استسلم الإمام يحيى وطلب الصلح، وأمر الملك عبد العزيز رحمه الله بعودة الجنود إلى مواقعها الأولى، ولما هدأت الأحوال في تلك الجهات رأى الملك عبد العزيز أن من الواجب عليه بثّ الدعاة والمرشدين في تلك البلدان، ليرشدوا الناس ويفقّهوهم في أمور دينهم وعقيدتهم، فوقع الاختيار على بضعة عشر رجلاً من طلبة العلم، منهم عمّنا الشيخ عبد الرحمن رحمه الله قاضي جيزان، وأنا ومعنا عدد من الإخوان من أهل «بُرَيْدة»، ومن أهل «البُكَيرية»، ومن أهل «الرَّس»، ومن أهل «المِذْنَب»، كلهم من «القَصيم»، ومجموعهم اثنا عشر رجلاً.
فسافرنا مع الشيخ عمر بن سِليم في السيارات للحج، وكان الناس إذ ذاك يحجّون على الإبل، وحججنا مع الملك عبد العزيز في سنة 1353، وهي السنة التي حصل فيها الاعتداء على الملك عبد العزيز في المطاف من اثنين أو ثلاثة من اليمانيين؛ كانوا قد انزووا في الحِجْر، فلما مرّ الملك عبد العزيز عدا عليه واحدٌ منهم بسكينة، ويصوّت بأصوات منكرة، وكاد أن يوقع بهم، لولا مدافعة الله تبارك وتعالى، ثم الحرس تداركوا الأمر، وأطلقوا النار على المعتدي حتى خرَّ صريعاً، والثاني فرّ، وأدركوه كذلك، ثم إن الملك عبد العزيز قطع الطواف ودخل إلى غرفة قريبة من المَطاف: غرفة الأَغَوات، حتى هدأ الرَّوع، وسكنت الأحوال، ثم كمّل الطواف وعاد إلى منى يوم عيد الأضحى 10 ذي الحجة 1353.
الشاهد أنه في ذلك التاريخ انتدبونا إلى منطقة «جازان»، وتعينت مع عمي عبد الرحمن في «جيزان»، ومكثتُ هناك قريباً من ثلاث سنوات، ما بين دعوة وتعليم وإرشاد وخطابة وقراءة على عمِّنا؛ وسِنّي إذ ذاك 19 سنة تقريباً.
ثم استقلت ورجعت لعنيزة، واعتكفنا على دروس شيخنا عبد الرحمن بن سعدي نطلب العلم عليه، فلم نشعر مرة ثانية إلا وقد جاء أمرٌ جديد إلى أمير «عنيزة» عبد الله الخالد السليم من الملك عبد العزيز بأن أسافر إلى «الرياض» ثم إلى «جيزان»، حيث كلّفوني بقضاء «أبو عَريش»، حاولنا التخلص والعفو؛ أن يبقوننا نطلب العلم على مشايخنا، فلم يحصل ذلك، فلم يسعنا إلا امتثال الأمر.
ذهبنا إلى «أبو عَريش»، ومكثنا هناك في «أبو عَريش» و«فَرسان» نحو ست سنين، مع بُعد المسافة، وصعوبة المواصلات، ما تأتينا الكُتُب من أهلنا إلا بعد مدة، تمكث الشهر أو أكثر.
وفي مدة بقائي هناك صار بيني وبين شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله مكاتبات واسترشادات في بعض القضايا التي تَعرض لنا، وكنتُ أكتب له، ويجيبني رحمه الله الجواب الشافي الكافي، وتحصّل عندي من ذلك مقدار قريب خمسين رسالة، تشتمل على فتاوى، وإرشادات، ونصائح، وتعليمات رحمه الله، أبقيناها عندنا مخطوطة، حتى قام بها بعض الإخوان أخيراً، وطبعوها في مجلد لطيف، اسمه: «الأجوبة النافعة على المسائل الواقعة»، فيه من علوم الفقه والحديث والتفسير والتاريخ وغير ذلك الشيء المفيد.
وبقينا هناك إلى سنة 1364، ثم بعد ذلك استعفينا، ورجعت إلى «عنيزة»، وبقيت في «عنيزة» مدة سنة تقريباً، ولم أشعر إلا ويأتيني الطلب الثالث بتكليفي بقضاء «الخَرْج»، فمكثت في «الخرج» مدة، ثم أمر الملك عبد العزيز بنقلي إلى «الرياض»، وبقيت في محكمة «الرياض» خمس سنين، وفي عام 1370 أمر الملك عبد العزيز بنقلي إلى قضاء «عنيزة»، وحاولت الاعتذار من هذا الأمر فلم أستطع، ولم أجد بدًّا من تنفيذ الأمر، وسافرت إلى «عنيزة»، وبقيت فيها حتى عام 1375.
وفي الأخير لما فُتحت دار الإفتاء وكُلِّف بها شيخنا المفتي محمد بن إبراهيم رحمه الله، وكان يلتمس لها من الفقهاء من يساعدونه على الفتاوى وتصريف أمور الدار، فطلب من الملك سعود رحمه الله -بعد وفاة الملك عبد العزيز- تعييني عضواً بدار الإفتاء، فوافق له الملك سعود على ذلك، وصار تعييننا عضواً في دار الإفتاء عام 1375، وبقينا في دار الإفتاء إلى جانب شيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله مقدار 15 سنة، أسافر معه إلى الحج، وإلى «الطائف» أيام الصيفية، ومعه في «الرياض»، وقرأنا عليه العدد الكثير من المراجع العلمية[4]، واستفدنا من علومه وأخلاقه وآدابه وتربيته ما لا نجازيه عليه إلا بالدعاء الصالح، اللهم اغفر له، واجمعنا به في جنات النّعيم.
وكان رحمه الله في غاية ما يكون من النصح والإخلاص لله تبارك وتعالى، ثم لولاة أمور المسلمين وعامتهم، مع العلم، والدين، والورع، والتأني، والعقل، وجودة التفكير، وحسن التصرف في الأمور،؛ إذا صعبت الأمور على القضاة أو عند التمييز، أو ما بين القبائل، أو أشكل على الحكومة شيء: وجههوها إليه؛ ويسر الله تبارك وتعالى، وجعل الله فيه بركة، يصرّف هذه الأمور بحكمة وتأنٍّ وحسن تدبير.
بقيت معه في دار الإفتاء إلى أن توفي رحمه الله في رمضان 1389.
وبعد وفاة شيخنا محمد بن إبراهيم أَمَر الملك فيصل بنقلي إلى هيئة التمييز، ومنها إلى الهيئة القضائية العليا، ثم بعد ذلك لما تشكّل مجلس القضاء الأعلى برئاسة شيخنا محمد بن حركان تعيّنتُ عضواً فيه، وفي الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، ثم بعد انتقال الشيخ الحركانإلى رابطة العالم الإسلامي وتعيّن شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد في المجلس: رشّحني فضيلته لرئاسة الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى والنيابة عنه في رئاسة المجلس، وبقيتُ فيها إلى نهاية عام 1405 حين أحالوني إلى التقاعد لبلوغ السن النظامية، ولله الحمد والشكر.
• حبذا يا شيخ أن تحدثونا عن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، من حيث سيرة الرجل، وعبادة الرجل، وأمور شخصية قد تخفى على من ترجم له، وتنفع سامعها وقائلها.[5]
شيخنا العلامة عبد الرحمن بن سعدي نعم الشيخ، نعم المربي، نعم المعلّم، نعجز عن تعداد خصاله الحميدة وسيرته الرشيدة.
وُلد سنة 1307، وعاش يتيماً، مات أبوه وهو صغير، وماتت أمه وهو كذلك، وكفله أخوه حمد بن ناصر السعدي، وأحسن تربيته هو وزوجته رحمهما الله، فلما أن تجاوز سن التمييز بدأ بطلب العلم، ومنحه الله تبارك وتعالى فهماً وعلماً ومعرفة، وصار من أبرز طلاب العلم مع لِداته وبني جنسه، فهو يحصل في الأيام القليلة ما لم يحصله غيره في أكثر من ذلك، فلما عَرَف زملاؤه وإخوانه تفوّقه اعتبروه شيخاً لهم، وطلبوا منه أن يدرّسهم، وكان إذ ذاك يَدرس ويُدرّس.
أخذ العلم عن مشايخ «عنيزة»: الشيخ صالح بن عثمان القاضي قاضي «عنيزة»[6]، والشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر قاضي «عنيزة» أيضاً، والشيخ محمد بن مانع، والشيخ محمد بن شِبْل، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وغيرهم.
ليس له تعلق في الدنيا أبداً؛ كل وقته بين إفتاء وتأليف وإمامة ونصح، وصار له صدى كبير بين بني جنسه، ليس في «عنيزة» فقط، بل في جميع قرى «القصيم»، بل وغير «القصيم»، هو أول من ألّف التفسير من علماء نجد، ما نعرف من علماء نجد المتأخرين من صنّف تفسيراً كاملاً في القرآن غيره -اللهم إلا الشيخ فيصل المبارك- وتفسيره من أحسن التفاسير وأنفعها وضوحاً وسلامةً وتحصيلاً، وله مؤلفات أخرى تزيد على ثلاثين مؤلَّفاً.
وكان طريقته في التعليم غير طريقة من سبقه من المشايخ، كان المشايخ الأول كل إنسان يريد أن يقرأ يأتي بكتاب يختاره إلى الشيخ؛ ويستأذنه ويأذن له قراءة فردية، فلما كثر الطلاب على شيخنا قال لهم: الوقت ما يتسع كل إنسان يقرأ في كتاب وحده، ولكن اجتمِعوا على كتاب واحد في درس واحد، في التفسير أو في الحديث أو في الفقه أو في النحو، فاتفقوا على هذا، فاجتمع عليه من الطلاب كثرة، تارة يكثرون: أربعين، ثلاثين، خمسين، وتارة يقلّون، ويذهب ناس، ويتخرج ناس، ويأتي ناس جدد.
فدرسنا عليه، تعلّمنا منه الآداب والأخلاق والحِلْم على الطلاب، والنُّصْح، واستيعاب المسائل، وكان أيضا يناوب بين الطلاب في إعادة الدرس، إذا انتهى من الدرس طلب من أحدهم يلخّص ما قاله الشيخ، وبعضهم يورد عليه أسئلة ويُجيب عليها، وربما أورد الشيخ عليهم أسئلة ليجيبوا عليها، وربما يغلّط الشيخ نفسه، إذا أراد أن يُعرب مثلاً رفع المنصوب، ويُلقي باله عليهم؛ ليعلم من يتفطّن لهذه الغلطة ممن هو سارح الذهن، فالذي هو حاضر الذهن يستغرب هذا، والذي هو غائب الذهن تفوت عليه، وكذلك في إلقائه عليهم الأسئلة يعرف من قد حضّر للمسألة وأجاب عليها، ومن يتلجلج في الجواب ولا يُعطي الجواب السليم.
وكان يُكلِّف بالحفظ، شيخنا عبد الرحمن بن سعدي حلقته عشرين مثلاً؛ يتحلقون على الأرض، لا كراسي ولا فُرُش! الأرض مفروشة بالرمل، الذي يريد يهتم يحفظ ويقرأ يصير على يمين الصف، على يمين الإمام، والذي عنده غفلة أو ما حفظ يصير يسار الحلقة، فإذا جلس الشيخ، وسلّم، وابتسم في وجوه الحاضرين، قال للأيمن: سَمِّ، اقرأ. وقرأ الأيمن ثلاث آيات إن كان قرآن، ثلاثة أحاديث إن كان حديث، ثلاثة أسطر من متن الزاد مثلا، ثم يقرأها الثاني أيضا نفسها، ثم يقرأها الثالث، فإذا تكررت على أسماعهم ثلاث مرات شَرَع يفسّرها ويوضحها ويُعطي عليها معاني، ويُحيل على شيء إن كان سبق، ربما في أثناء الدرس سأل بعض الطلاب : ما معنى كذا، ما إعراب كذا؟ ما تفهم من كذا؟ وربما إذا انتهى الدرس قال لأحد منهم: أعطنا خلاصة ما سمعت من الدرس هذا. وربما قام وقال: تعال يا فلان، اجلس هنا وأعد عليهم الدرس. فحسب ما عندهم من الاستطاعة والاستيعاب، منهم من يستوعب، ومنهم من يزيد، ومنهم ينقص، يتذاكرون في هذا، هذا فيه فائدة لطالب العلم.
وله مؤلفات كثيرة رحمه الله، تتجاوز ثلاثين مؤلَّفاً، منها: «الدين الصحيح يحل جميع المشاكل».
ومنها «القواعد والأصول» التي لخّصها من كتب شيخ الإسلام وابن القيم، جمع فيها ألف قاعدة تقريباً، ما بين قاعدة وضابط وغير ذلك، وهو مطبوع متداول في المكتبات.
وكذلك أيضاً في الفقه: «السؤال والجواب»، الذي هو الأسئلة والأجوبة الفقهية.
و«منهج السالكين وتوضيح الفقه المبين».
وممن أرَّخ له زميلنا الشيخ عبد الله البَسّام في كتابه «علماء نجد خلال ثمانية قرون»، فإنه فصّل سيرته ورحلته وطلابه ومؤلفاته رحمه الله، وكذلك الشيخ محمد العثمان القاضي في كتابه «روضة الناظرين».
• ذكرتم في إحدى اللقاءات أنكم قرأتم عليه في مقامات الحريري، فكيف كان ذلك؟
كان رحمه الله يقرأ في كتب الأدب أحياناً، وخصوصاً مقامات الحريري، ولا سيما المقامة الخمسون؛ لما فيها من الوعظ والتذكير والتوبة، وفي أحد المجالس طلب منه الحاضرون أن يختم المجلس بشيء نافع، فأمرني أن أقرأ عليه تلك المقامة، فقرأتها، وانبسط منها هو والحاضرون، لما فيها من الوعظ وترقيق القلوب وذكر التوبة النصوص.
وكان ابنه عبد الله بعد أن انتقل إلى «الرياض» إذا اجتمعنا به في بعض المجالس يطلب مني أقرأها عليه وعلى الحاضرين، ويذكر من محبة أبيه لسماعها.
وبهذه المناسبة أذكر أن شيخنا حدثنا أنه كان مرة يقرأ في «ديوان المتنبي»، وكانت القصيدة تلك فيها هجاء لبعض الرؤساء، يقول: لما نام رأى في المنام كأنه ينبش قبراً، ويده تجول في عظامه. يقول: تقززت نفسي، وعزفتُ عن قراءة الأشعار التي فيها الهجاء.
• نرجو منكم ذكر قصة وفاة الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن السعدي استمر على هذا من حين بلغ 15 أو 16 سنة وهو في تفوق وزيادة معلومات، حتى وصل به الحال إلى أنه صار في «عُنيزة».. هو ما تولى القضاء، لكن هو المفتي، وهو المرشد، وهو الإمام، وهو الواعظ، ما في «عنيزة» إلا مسجد واحد، يحضرون من أطراف البلد، يصلون معه الخطبتين، وكانت الخطب في الأول إذ ذاك، الخطيب يخطب بكتاب قد طُبع، من دون إلمام بشيء من هذا، يأخذ الخطبة ويقرأ من الكتاب بدون تفصيل للمسائل، أما شيخنا عبد الرحمن بن سعدي لا، صار هو الذي يصنف الخطبة، يجمعها، ويرى المواقع والمحلات التي تحتاج إلى زيادة إيضاح وتنبيه أو خلل، أما الأوائل مطاوعة بسيطون ما عندهم زيادة إلمام في شيء، حتى إن بعضهم لما أخذ الخطبة يريد أن يخطب من الكتاب في خطبة العيد، مكتوب فيها: الله أكبر تِسْعاً نَسَقاً. قرأه هذا: الله أكبر تسعاً نَسَقاً! ما فهم ما معنى نَسَقاً بأنه يأتي بها واحدةً بعد الثانية بعد الثالثة بعد الرابعة! أما شيخنا فكان يعالج المشاكل التي تقع في وقته من ناحية خطب الجامع.
وكان أيضا مُشغلاً وقته: في الصباح مرة أو مرتين، وبعد الظهر، وبعد العصر، وبعد المغرب، وبعد العشاء.
في آخر الوقت كأن أصابه شيء من النزيف، صار عنده شيء من النزيف، وتأثر، وأغمي عليه، وما خرج من المسجد إلا معضداً من هنا ومن هنا، فلما علمت الحكومة أرسلت له طائرة، وبُعث إلى «لُبْنان»، وعالجوه نسبيا، وصحَّ، ونصحوه أن لا يُمعن ويُكثر من التحديق في معاني القرآن والسنة، هذا هو الذي أصابك، وكذا.
أعطوه التعليمات أنه يخفف من المجالس هذه، ولكنه لم يمتثل، وقال: أنا راحتي في هذا. فبعد مدة عادت عليه النكسة مرة ثانية، وصار في غيبوبة أخرى أشد من الأولى، وحاولتْ الحكومة أيدها الله أنهم يستنقذون الموقف، وأرسلوا له طائرات، ولكن صار في أيام الشتاء وأيام الضباب والأمطار، ولم تتمكن الطائرة من الهبوط في مطار «عُنيزة»، لأمرٍ قضاه الله تبارك وتعالى، فتوفي رضي الله عنه في ذلك الوقت، سنة 1376، ولم يبلغ سبعين سنة من العمر، رحمه الله، توفي في «عنيزة» ما سافر، فأصاب عنيزة ذهول، وأصابهم إزعاج، وتأثروا تأثراً عظيماً، وخرجوا كلهم معه في الجنازة، وأصابتهم مصيبة عظيمة، وعزوهم الناس من الداخل والخارج، رحمه الله.
• هلّا تحدثتم عن الشيخ المسند علي أبو وادي رحمه الله تعالى.[7]
الشيخ علي أبو وادي شيخنا، وشيخ مشايخنا أيضا، وُلد سنة 1273 وتوفي سنة 1361، صار له عناية بالحديث، وسافر إلى «الهند»، وأخذ الأسانيد العالية عن شيخه الشيخ نذير حسين، شيخ مشايخ الهند على الإطلاق، كما أخذ عن الشيخ صديق حسن خان ملك «بُهوبال»، هذا الملك اتصلت به الملكة بيغم، ملكة بهوبال في الهند، وهي امرأة عالمة صالحة، ولها وزراء ورجال وقائمون بالعمل، فصار بينه وبينها اتفاق أن يتزوجها، وشرط عليها أنها ما تتولى المنصب بعد الزواج، فقالت: أنا أتنازل عنه لك. فصار هو يتولى مهمات الأمور.
والشيخ صديق حسن خان معروف، من كبار علماء الهند، وله المصنفات العديدة في فنون العلم، أهمها له تفسيره الكبير «فتح البيان»، الذي طبع مرات، ويقع في أكثر من عشرة مجلدات، وله مراسلات مع أئمة الدعوة وغيرهم.
القصد أن شيخنا علي أبو وادي بعد أن تحصل على الإجازات العلمية في الحديث رجع من الهند، وجلس للمشايخ والإخوان في «عنيزة»، وأخذوا منه الإجازة بالأسانيد العالية، منهم شيخنا عبد الرحمن السعدي، وذلك في عام 1340.
أما أنا فلحقت بهم أخيراً نظراً لصغر سنّي، وذلك في عام 1357، عندما أشار علينا شيخنا عبد الله بن محمد المطرودي (1312-1361) -الذي يحفظ البخاري عن ظهر قلب سنداً ومتناً، وهو من تلاميذ شيخنا أبو وادي- أشار علينا المطرودي بأخذ الإجازة من شيخنا أبو وادي بالحديث، واستأذنه لنا، فأذن، وحلسنا نقرأ عليه في الأمهات: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، ومشكاة المصابيح، وبدأنا نقرأ عليه بأوائلها، فأجازنا فيما قرأناه عليه، وأجازنا في بقية الكتب إجازة، بعدما ناولنا إياها، وكانت حاضرة في المجلس، وذلك في عدة أيام من شهرَي ربيع الأول والثاني عام 1357، بعد سبع عشرة سنة من إجازته لشيخنا ابن سعدي وزملائه، رحم الله الجميع.
• نرجو إفادتنا عن شيخكم القرعاوي؟[8]
شيخنا عبد الله القرعاوي طلب العلم على المشايخ في المملكة، ثم سافر إلى «الهند»، وتعلم من العلوم هناك خصوصاً علوم الحديث، ثم رجع وفتح مدرسة عندنا في «عنيزة»، واجتمع عنده عدد من الطلاب، وصار يعلّمهم مجّاناً دون مقابل، وقد كان المدرّسون قبله يأخذون على التدريس شيئاً رمزيًّا، وانتفع الطلاب به، حيث بدأ بهم يحفّظ شيئاً من القرآن، والعقيدة، والحديث: «الأربعين النووية» و«البيقونية»، والفرائض، وعلوم الحساب، وغير ذلك، ولكن لم تطل مدته، فأغلق المدرسة، وسافر إلى «الرياض» يقرأ على شيخه الشيخ محمد بن إبراهيم، ولما رأى شيخنا محمد بن إبراهيم رغبته بالدعوة إلى الله أرشده إلى السفر إلى منطقة «جيزان»، وقال له: إن أهلها قد فشا فيهم الجهل، وهم متعطشون لمن يرشدهم ويعلّم أولادهم، وهم ناس قريبو التجاوب، ينقادون للداعية.
فسافر إلى «جيزان» في حدود سنة 1359، وبدأ دعوته هناك، وجعل الله فيها خيراً، وانتشرت دعوته، وانقاد الناس له، وصار له تلاميذ من أخصهم الشيخ حافظ بن أحمد الحَكَمي، كان يرعى الغنم عند والده، وحضر دروس القرعاوي، فرغب فيه وتوسم فيه الخير، وحرص عليه، لكنه كان يغيب أحياناً، فسأله عن غيابه؟ فقال: والدي يكلفني أرعى الغنم.
فاستدعى الشيخُ أباه، وقال له: دع حافظاً يدرس عندنا يوميا. فقال: الغنم عندنا ما لها راعٍ! فقال: أنا أستأجر لك بدله راعياً يرعى غنمك. فاستأجر له صبيًّا يرعى الغنم.
واستمر الشيخ حافظ حتى رزقه الله علماً ومعرفة، وألّف المؤلفات، ونفع الله به، وصار هو العضد الأيمن للشيخ القرعاوي في التعليم والتوجيه والتدريس، رحمهما الله، ولكنه لم يعمّر، توفي رحمه الله شابًّا سنة 1377 وعمره إذ ذاك سبع وثلاثون سنة.
وقد انتشرت دعوة شيخنا الشيخ القرعاوي في جهات منطقة «جيزان»، وفتح المدارس العديدة، وكثر فيها الطلاب، وتخرج منهم كثير، وأصبح تلاميذه وتلاميذهم منهم المشايخ ورؤساء الدوائر والقضاة والأئمة والدكاترة وغيرهم.
• من تتذكرون من أبرز زملائكم الذين كانوا معكم في أثناء الطلب.
زملاؤنا عند الشيخ القرعاوي في سنة 1348 كثيرون، منهم عبد الرحمن بن حمد السعدي، ابن عم الشيخ، موجود الآن في «الدَّمّام»، ومنهم سليمان الدخيّل، هذا خالُه الشيخ عبد الله القرعاوي، موجود الآن في «عُنيزة»، ومنهم محمد بن إسماعيل رحمه الله، ومنهم محمد بن حِنْطي، موجود الآن في «عنيزة»، وغيرهم ممن نسيت أسماءهم، كل هؤلاء من تلاميذ الشيخ القرعاوي؛ ثم صاروا من تلاميذ شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أيضاً.
• نرجو التحدث عن الفترة التي قضيتموها في منطقة «جازان»، وهل تواصلتم مع أحد من علمائها أثناء مقامكم فيها، وما طريقتهم في التحصيل حال مقامكم في منطقة «جازان».[9]
أهالي «جازان» على العموم أناس طيبون، وقلوبهم طيبة، ينقادون للنصيحة، وعندهم تواضع ومحبة للحكومة ولطلبة العلم النَّجْديين وغيرهم، يلتفّون إليهم، ويجتمعون بهم، وفيهم طلبة علم، كان بعضهم يسافر لليمن لتلقي العلم في صنعاء.
كنا في «جازان» في أول الأمر مع شيخنا عبد الرحمن بن عقيل، هناك حلقات في المساجد، وبعض الأئمة وبعض الطلاب يحضرون معنا عند شيخنا عبد الرحمن العَقيل، ونتذاكر معهم، ونقرأ معهم في بعض كتب الشافعية، لأنهم شافعية المذهب، كتب الشافعية مثل «الإقناع»، و«شرح المنهاج»، و«سفينة النجاة»، و«أبو شجاع»، كل هذه من الكتب الصغار التي يقرؤها صغار الطلبة، وكذلك في كتب الحديث: البخاري، ومسلم، والسنن، والحكومة -أيّدها الله- تجعل للأئمة والمؤذنين إذ ذاك رواتب متواضعة، تشجعهم على حضور الدروس، وعلى القيام بإمامة المسجد والأذان ونحو ذلك، فحصل بذلك مجالس فيها خير وبركة.
• هل كانت معالم التوحيد موجودة في منطقة «جازان» قبل مجيء الشيخ القرعاوي؟
لا، كانوا أهل «جازان» قبل القرعاوي أناس فقراء، ومشغولون في أمور فلاحتهم أو في أعمالهم، ولا التفتوا إلى هذه، ولا عندهم علماء عندهم اجتهاد في توجيههم، يسمونه فقيه، يقرأ بهم: يصلي بهم الصلوات، حتى في رمضان يصلون التراويح يرددون السور القصار، يقولون: (نلهاكم، ولَهْلِب).. (نلهاكم، ولهلِب) يقرؤون في الركعة الأولى: ﴿ألهاكم﴾، والثانية ﴿قل هو الله أحد﴾، ثم التي بعدها بالعصر والإخلاص، وهكذا حتى يختم! أهل جهل، وعدم معرفة، ولا جاءهم أحد يدعوهم، ومشغولون بشؤون رزقهم، هم فقراء، فقر مدقع، كانت حاجاتهم في غاية ما يكون من البساطة، وكانت هناك الذبيحة تباع بريال، والإنسان إذا أراد أن يتقضى لبيته الريال هذا يجيب جميع مقاضي البيت، بل الريال ربما عاد ببعض القروش ما كملها.
وهم أناس هادئون، ويتقبلون النصيحة من طالب العلم، ويوقرون العلماء، فلما جاءهم شيخنا القرعاوي استجابوا لدعوته، وانقادوا له، والتفّوا حوله، ونفع الله به، فبثّ فيهم العلم، وبدأ بهم من مسائل الأمور الصغار، حتى نجح في مهمته، وكان يعطي الطلاب ويعطي أهلهم ويعطي شيخ القرية، حتى إنهم أَلِفُوه وأحبُّوه، ونجح على يده جملة، من أخصهم الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، فقد نفع الله به، ولازمه ملازمة تامة، حتى تخرج وتحصل على حظ وافر من العلم، وألّف المؤلفات النافعة في العقيدة والحديث والفقه والآداب وغيرها.
وفتح شيخنا القرعاوي المدارس المتعددة من مساعدة الحكومة -أيدها الله- أيام الملك سعود بدعم من شيخنا محمد بن إبراهيم رحمهما الله، وجعلت له الحكومة ميزانية ضخمة، ومكنته من التصرف في الرواتب، فساعده ذلك على التوسع في نشر العلم فيهم، وشجعوا أولادهم على الالتحاق بمدارسه، وحصل خير كثير بذلك، مع النية الصالحة وحسن التدبير، وأخذ الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.
• لما كنتم في «جازان» هل بقي أحد من طلاب الشيخ عبد الله القرعاوي، وهل تعرفون الشيخ أحمد النجمي، وهل لكم مدارسة معه أيام كنتم في «أبو عريش»؟
أما الشيخ عبد الله القرعاوي نحن قرأنا عليه في «نًجْد» في «عنيزة» قبل أن يبدأ دعوته ببضع سنين، قرأنا عليه في سنة 1348 وهو ما بدأ دعوته في «جازان» بعد 1358، بعد عشر سنين تقريباً، وأما تلاميذه فنعم، نعرفهم، منهم من مات، ومنهم الحي.
أما الشيخ العلامة أحمد بن يحيى النجمي فهو شيخ فاضل معمر، من كبار تلاميذ شيخنا القرعاوي، وتحصل على معلومات جمة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه، وأصبح بعد وفاة شيخنا القرعاوي هو مرجع المشايخ وعمدة المفتين في منطقة جيزان وغيرها، والناس يثنون عليه ويمدحونه، وعمّره الله على زيادة أعمال صالحة نغبطه عليها، نسأل الله لنا وله حسن الخاتمة[10]، وتعرفت عليه منذ مدة، وتدبجت معه، فأجازني وأجزته، وزارني في بيتي في الرياض مرتين في عام 1424 و1426، وأنشدني لنفسه بعض الأبيات.
وكذلك حافظ كنا نعرفه قبل وفاته، وأخوه محمد، وتلاميذ الشيخ باق منهم بقايا، ولكن أكثرهم توفوا.
• جدولكم اليومي في أثناء الطلب.
جدولنا في أثناء الطلب الغالب يقوم الإنسان من منامه قبل أذان الفجر بما سهل الله، ثم الجدول كما يلي:
أولا: بعد صلاة الفجر نتحلق في مسجد المسوكف لدى شيخنا قاضي عنيزة الشيخ عبد الله بن محمد بن مانع رحمه الله، نقرأ عليه درساً في الحديث أو في الفقه أو في العقيدة، ثم بعد ما تطلع الشمس وترتفع ينتهي الدرس هذا، والغالب الموجودون يصلون ركعتي الضحى، وبعد ذلك ننطلق إلى مسجد الجامع لحضور روس شيخنا السعدي، لأن موعد جلسته مقررة بعد طلوع الشمس بساعة كاملة سواء في الصيف أو في الشتاء، ما عدا يومي الثلاثاء[11] والجمعة، فنقرأ عليه درسا؛ بل دروساً في الحديث أو الفقه أو العقيدة أو النحو، وبعد هذا الدرس ننصرف ونتهيأ للدروس المستقبلة، ونهيّئ لها، وقبل أذان الظهر بنصف ساعة تقريباً هناك القيلولة.
ثانياً: إذا أذن الظهر انطلقنا إلى مسجد القاع للصلاة والدرس لدى شيخنا سليمان العمري قاضي الأحساء، ونقرأ عليه في شرح الطحاوية، ثم ننطلق إلى دروس شيخنا السعدي في مسجد الجامع، كل هذا قبل العصر.
ثالثاً: بعد صلاة العصر جلسة خفيفة لدى الشيخ السعدي أيضا في صحيح مسلم وغيره.
رابعاً: بعد صلاة المغرب لدى شيخنا السعدي في جلسة عامة في التفسير.
خامساً: بعد صلاة العشاء في غرفة المسجد، حيث نجتمع نحن كبار الطلبة، ونتذاكر دروس الغد، ونشرب الشاهي ونتناول بعض الحاجات.
هذا غالب جدولنا، إذا لم يكن لأحد منا شغل مهم أو حاجة لازمة له أو لأهله.
• اذكروا لنا نبذة عن أهم من قابلتهم من أهل العلم:
أحمد شاكر رحمه الله، هل قابلتموه أم لا؟[12]
أحمد محمد شاكر من علماء مصر، من أفاضل علماء مصر، نعم، قابلناه لما كنت قاضياً في الرياض، سنة 1367 أو 68، جاءنا، وصار ضيفا للحكومة، واحتفى به شيخنا محمد بن إبراهيم، وأخذه الناس في الدائرة، وأنا من ضمن من أخذه، فزارنا في بيتنا، وتحدثنا معه، وجدناه رجلاً طويلاً، ولا هو بضخم، نحيف، ومتأني، وعنده تحقيقات، حقق كتباً عظيمة، حقق مسند الإمام أحمد رحمه الله، وصحيح ابن حبان، وكتب كثيرة، وتفسير ابن جرير، وغيرها من الكتب، واستفدنا منه في المجالس التي جلس عندنا تقريبا أسبوع أو عشرة أيام، احتفى به المشايخ، كل ليلة عند واحد، أو كل ظهر عند واحد، نحضر مع الدعوة، وكلٌّ منا يلقي عليه إما سؤال أو بحث، وهو تارة يبتدئ، وتارة يجاوب، واستفدنا منه، وعرفناه نعم الرجل، رحمه الله.
• والعلامة سعد بن حمد بن عتيق؟
الشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض رحمه الله هو شيخ مشايخنا، كان في غاية ما يكون من العلم والعقل والتواضع والهيبة، له هيبة عند المشايخ وعند ولي الأمر، له قيمته، وكلمته لها قيمتها، ما أدركته، ولكن نسمع من مشايخنا -خصوصاً شيخنا محمد بن إبراهيم[13]- من الثناء عليه علماً وعقلاً وسلوكاً وورعاً ما يعجب منه السامع، وهو شيخ كبار مشايخ الرياض في وقته، وترجم له كثير من المؤرخين، منهم الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ عبد الله العبد الرحمن البسام، والشيخ محمد العثمان القاضي، والشيخ صالح بن عثيمين في تسهيل السابلة، رحم الله الجميع، وتوفي سنة 1349 في الرياض.
• متى تعرفتم على سماحة الشيخ عبد الله بن حميد؟ وما مدى علاقتكم به؟[14]
أما شيخنا العلامة عبد الله بن محمد بن حميد فإن أول معرفتي به حينما كان قاضياً في الرياض سنة 1358، دخلتُ عليه في بيته -بيت طين متواضع- في وسط حلة الرياض القديمة، حارة الدحو، وكان القضاة إذ ذاك يقضي القاضي في مسكنه، فليس هناك محكمة مستقلة، ولا ضبوط ولا سجلات، رقيتُ إليه في مجلسه مع الدرج، وجدته ينظر في قضية زوجية بين رجل وامرأته.
وقد وهبه الله رغبةً في العلم، وحب التحصيل والاستزادة من العلوم والمعارف بشتى أنواعها وفنونها، من الشرعية والعربية والأدبية، أصولاً وفروعاً، فتأهل وبرز بين الأقران، مما جعل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يعيّنه مساعداً له في التدريس في المسجد الذي يدرّس فيه، وهو المسجد المعروف باسم مسجد الشيخ في حي «دِخْنَة» من مدينة الرياض، وكان ذلك المسجد يمثّل جامعة إسلامية تموج بالطلاب من مختلف المناطق، بل ومن خارج الجزيرة.
ثم نقل الشيخ ابن حميد إلى قضاء «المَجْمَعة»، ومنها إلى «القَصيم»، حيث تولى قضاء «بُريدة»، والتدريس والخطابة والإفتاء، وصار رئيس قضاة القصيم عموماً.
ثم جاورته في «عُنيزة» حينما عُيّنت قاضياً لها عام 1370، وكنت أزوره ويزورني، وأواصله بالكتابة، وتأتيني منه الجوابات السديدة والنصائح المفيدة، حتى عام 1375 حينما نُقلت إلى دار الإفتاء بمعيّة شيخنا العلامة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وكنا مع الشيخ ابن حميد أيضاً حينما كان يفد إلى الرياض من بريدة إيام المراكيب، ويمكث فيها الأيام، نزوره وندعوه إلى منزلنا، ونحضر جلساته، ونستفيد منه.
وفي عام 1384 تعيّن في الإشراف الديني على الحرمين الشريفين، فانتقل من القصيم إلى مكة، وأنشأ فيها معهد الحرم المكي وعدة مشاريع نافعة، وتولى التدريس في الحرم والإفتاء وغير ذلك، وأخيراً تعيّن رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، وكنتُ معه عضوا في مجلس القضاء الأعلى، وتحت توجيهاته وإرشاداته، ثم رئيساً للهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، وكنتُ أنوب عنه في رئاسة المجلس في غيابه للعلاج في أمريكا، حتى توفي رحمه الله في 20 ذي القعدة سنة 1402.
• أول لقاء بينكم وبين سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.[15]
أول لقاء بيني وبين الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان هو قاضياً في «الخَرْج»، في «الدِّلَم»، وكانت العاصمة إذ ذاك «الدِّلَم»، وكنت عُيٍّنتُ قاضياً في «الخرج» أيضا أنا، ولكن في «السَّيْح» -الآن الموجودة التي اسمها «الخرج»- بين «اليمامة» و«السّلميّة» و«السَّيْح»، هذا في شرقي «الخَرْج»، و«الدلم» في غربي الخرج، فعينت في ذاك في «الخرج»، والشيخ عبد العزيز بن باز شيخنا ورئيسنا في «الدلم»، ما بيننا وبينه ارتباط في العمل، بل بالعكس، كنت لما تعينت في «الخرج» قاضيا في «السيح» فقط بدل الشيخ سالم الحناكي رحمه الله، وكانت جميع قرى «الخرج» ترجع في قضائها إلى الشيخ عبد العزيز بن باز، فلما تعينت في «السيح» وإذا المسافة بين «السيح والدلم» طويلة، وهناك قرى بيننا وبينه، أمر الملك عبد العزيز في كتابٍ وجهه إليّ على أني أتولى النظر زيادة على «السيح: اليمامة والسلمية، والهياثم»، أن يكون قضاؤها تبعنا، وتخفيفاً عن الشيخ عبد العزيز بن باز لأنه اشتكى له زيادة العمل، ثم جاءني كتاب من الشيخ ابن باز لما بلّغه الملك، قال: بلّغنا الملك بأن القرى هذه يكون قضاؤها تبعكم، فاستعينوا بالله واصبروا، وأدعو لكم، ودعا لنا، وقال: لا تُعِد عليّ أحداً منهم، ترى إن جاءني أحد منهم سوف أرجعه عليك، لأن ما عاد لي عليهم قضاء.
فكانت تلك السنة سنة 1365 هي أول معرفتي بالشيخ عبد العزيز بن باز، ثم هو استمر في «الخرج»، وأنا نُقلت من «الخرج» إلى قضاء «الرياض»، واستمرت معرفتنا به، تارة نزوره في «الخرج»، وتارة يزورنا في «الرياض»، وبيننا وبينه صداقة ومحبة وصحبة رحمه الله، عندي منه مكاتيب ووصايا ونصائح وفتاوى محتفظٌ بها مخطوطة بختمه رحمه الله، كان يكتبها الشيخ راشد بن خنين وصالح بن حسين العراقي كُتّابه في «الدلم».
• هل التقيتم بالشيخ الألباني؟ ومتى؟ وكيف كان لقاؤكم؟[16]
الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني من خيار علمائنا في الحديث والسنّة والرد على أهل البدع والصوفية وغيرهم، التقيتُ به أكثر من مرة في دمشق، أولها في عام 1399 في المكتبة الظاهرية، حيث كان له فيها مكان خاص، يداوم فيها كل يوم غالباً، ويشتغل بتحقيق المخطوطات، وسألتُه عن مخطوطة رسالة للشيخ ابن رجب في وقوع طلاق الثلاث الذي خالف فيه رأي شيخه ابن القيم، وشيخ شيخه؛ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله، وبحثنا في جملة من المخطوطات، ولم نجدها.
ومرة أخرى اجتمعنا به في دعوة وجهها إلينا الشيخ الكتبي محمد الخِيَمي، حيث دعانا إلى الغداء في «دُمَّر»، وحضر الشيخ الألباني وجماعة من الإخوان، ومتعنا بأحاديثه.
ومرة دعانا الشيخ الألباني إلى بيته في دمشق بعد المغرب، وطال بنا الجلوس حتى بعد العشاء، ونحن في بحوث وفوائد، ولما انتهينا صلينا العشاء في بيته جماعة، وقدّم لنا طبقاً فيه فواكه؛ جاءت به ابنته ووضعته أمامنا فوق الطاولة وذهبت، وأهدانا كتابه مختصر صحيح البخاري الجزء الأول، وأثنى عليه، وقال: أعتبره من أحسن مؤلفاتي.
ومرةً أبدى لي الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حاجته إلى من يقرضه مائتي ألف ريال، يريدها للشيخ الألباني قرضاً؛ لمناسبة بيته السكني في دمشق، حيث أن شركاءه سيبيعون نصيبهم منه، ويخشى أن يأخذه من يضايقه، وقال: هل تدلّنا على من يُقرضنا هذا المبلغ؟ فأشرتُ إلى الشيخ عمر المترك، ورجل آخر، فأقرضاه المبلغ، ثم أُعيد المبلغ للمقرضين بعد مدة وجيزة، رحم الله الجميع.
• متى تعرفتم على الشيخ فيصل المبارك؟ وكيف كان ذلك؟
الشيخ فيصل بن عبد العزيز المبارك نعم الرجل رحمه الله، أول ما تعرفت عليه في الرياض سنة 1368، وكان قاضياً في «الجوف»، ويفد إلى الملك عبد العزيز في الرياض سنوياً، كما هو معروف: يفد كبار المشايخ ورؤساء القبائل وأعيان الناس إلى الملك عبد العزيز في الرياض سنوياً لتجديد العهد به، ويعرضون عليه مشاكلهم، ويوجهون إليه نصائحهم، فيتقبّل منهم، ويتجاوب معهم، ويُكرم وفادتهم، ويُجزل جوائزهم، ويحصل بهذا اللقاء خير كثير، وربما أن الملك عبد العزيز لا يكتفي بذلك، بل يتجشم السفر إلى بلدانهم أحياناً، ويتفقد أحوالهم، ويطمئن على أخبارهم، ويتعرّف على كثير منهم، وهذه من حسناته التي يُشكر عليها رحمه الله.
الحاصل أن الشيخ فيصل قدم الرياض عام 1368 من «الجوف»، ونزل في بيت مجاور للمسجد الذي أنا إمامه «مسجد الشرقية»، فتعرفنا عليه، ووجدناه رجلاً فاضلاً متواضعاً، عنده علم ودين، وبسيط في أموره، لا يتكلف في شيء، وأكرمناه، وعزمناه نحن وغيرنا من جماعة مسجدنا وغيرهم، وكان يُلقي دروساً في تفسير القرآن، فسألتُه عن مراجعه في التفسير، فقال: أحسنها كتاب: «جامع البيان في تفسير القرآن» للصفوي الإيجي. وعرضه عليّ، فوجدته مجلداً واحداً كبيراً، جزآن في مجلد واحد مختصر مفيد، فعلق في ذهني، وطلبته من المكتبات، فلم أجده، لأنه مطبوع في الهند عام 1295، وأخيراً طُبع في الهند طبعة جديدة، واشترت منه دار الإفتاء نسخاً وزّعتها على طلبة العلم، وجاءني منه نسخة انتفعتُ بها ولله الحمد.
ولما رجع الشيخ فيصل إلى الجوف صار بيني وبينه مكاتبات، وأهدى إليّ شيئا من كتبه.
توفي الشيخ فيصل قاضياً في الجوف سنة 1376 وكانت ولادته سنة 1313، ولم يخلف إلا بنات، رحمه الله.
وكان عنده الشيخ عبدالله بن عبد الوهاب، رجل فاضل وطالب علم، أهل للقضاء، وتولاه بعده، رحمهما الله، وهو رجل فاضل نعرفه، صديق لنا.
• والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى؟[17]
الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود زارنا في «الرياض»، وعزمناه مرة، وجاءنا، وزرناه في «قَطَر» أكثر من مرة، وأيضا حضرنا عندما أُحضر بأمر من الحكومة لمناقشته في فتواه في جواز الرمي قبل الزوال، واستنكروها إذ ذاك المشايخ والإخوان، خصوصاَ شيخنا محمد بن إبراهيم، فأوعز إلى الملك سعود، وطُلب من أمير «قطر» أنه يأمر ابن محمود أن يأتي، جاء إلى «الرياض»، واجتمعنا في مجلس الشيخ محمد بن إبراهيم، عدة من المشايخ: الشيخ محمد بن إبراهيم، وأخوه عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن إسحاق، ومن قضاة المحكمة، وأنا معهم، وغيرنا، ونوقش في مواضيع رمي الجمار، وكيف أفتى أنه يجوز قبل الزوال، وصار فيها أخذ وردّ، بعد ذلك تنصل واعتذر، وزعم بأنه سوف يرجع عن فتواه، وراح، ولا رجع.
وفتواه صار لها صدى عند الناس لمّا رأوا ما يقع عند رمي الجمار من التلف وهلاك الأنفس الكثيرة، وقالوا: الشريعة ما تأتي بهذا، والضرورات تبيح المحظورات، فأباح من أباح منهم الرمي قبل الزوال، وأباح أيضا جمهور العلماء على الرمي بعد المغرب إلى بعد العشاء إلى آخر الليل، ولا يزالون كل سنة يحدث أشياء، حتى اتجه القول الآن عند كثير من الناس بأنه يجوز الرمي قبل الزوال، سواء في يوم النَّفْرة أو قبل ذلك، حتى شيخنا عبد الرحمن بن سعدي، لما أنه ابن محمود أظهر كتابه ذاك الذي فيه تيسير الأنساك، أنا أرسلته للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وقلت له: هذه الرسالة ألفها ابن محمود، نريد أن تعطيني رأيك فيها. فكتب إليّ جواباً، موجود ضمن الأجوبة النافعة، وقال: إن ما أدلى به ابن محمود ليس ساقطا ما له معنى، له معناه من القوة، من جنس أدلة المانعين، أو قد يكون أقوى..
وفي هذه السنة كتب الشيخ عبد الله بن منيع في مجلة الدعوة، ونقل من الكتاب هذا، نقل عبارة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، واتجه إلى التسهيل في هذا، أنه لو مثلا أُفتي بجواز الرمي قبل الزوال، أما في يوم النَّفْرة، وفي الإنصاف رواية عن الإمام أحمد، وقال به فلان وفلان من الأصحاب.
فهذه معرفتي بابن محمود، وأنا زرته مرتين أو ثلاث في «قطر»، وأكرمني جزاه الله خيرا، واحتفى بنا واصطفانا وأرانا بيته وأعماله واستراحاته وكذا، جزاه الله خيرا، أكرمنا إكراماً زائدا، اللهم اغفر له وارحمه، وله أولاد صالحون الآن في «قطر» ما شاء الله.
• والشيخ محمد الأمين الشنقيطي؟[18]
الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان فقد كان منزله بجوار بيتنا في «دِخْنة»، ونعزمه مع المشايخ في المناسبات، وحضرت مجالسه ودروسه في المسجد وغيره، وطلبت منه دروساً في المنطق، فقال: أنت لا تحتاج إلى دروس في المنطق، يكفيك جلستان أو ثلاثة أبيّن لك قواعده، ومستعد بذلك، لكن استأذن من الشيخ محمد بن إبراهيم، فإنه قد منعني من تدريس علم المنطق للطلاب، وأدباً مع سماحته أحتاج إلى إذنه.
ولكن بحكم ارتباطي مع سماحته في دار الإفتاء لم أتجرأ على الاستئذان منه خشية أن لا يأذن فتكون في النفس، فتوقفت لذلك.
• والشيخ عبد الله العنقري؟[19]
من المشايخ الذين اجتمعت بهم فضيلة الشيخ عبد الله العنقري، فقد اجتمعت به في الرياض حينما يأتي مع المراكيب أيام المناخ، وزرته في بيته الذي أنزلته به الحكومة في سنة 1367 أو 1368، وبحثت معه في عدة مسائل فقهية.
ومرة أخرى دعاه الشيخ إبراهيم بن سليمان زميلنا في محكمة الرياض ليلةً بعد العشاء، وصادف أنه -أي الشيخ إبراهيم- عُزل من قضاء الرياض ذلك اليوم، فقال الشيخ العنقري: إن أفعال الحكومة لا تُعَلَّل! قال ذلك تسليةً للشيخ إبراهيم ولنفسه، لأنه قد عُزل من قضاء «المَجْمَعة» فجأة، وتأثّر لذلك هو محبّوه.
• هل اجتمعتم بالشيخ عبد القادر الأرناؤوط؟ ومتى اجتمعتم به؟ وما المناسبة؟ وكيف كان ذلك؟[20]
نعم اجتمعنا بفضيلته مرات، واستفدنا منه علوماً وأخلاقاً، جزاه الله خيراً، فأول اجتماعنا به في عام 1418، حينما سافرت لدمشق ومعي بعض الأبناء، فزرنا في بيته في حي «المَيْدان»، وذلك ضحى، وتحدثنا معه، واستفدنا منه، وقلت له: نحن في «نَجْد» نتلقى العقيدة السلفية من علماء الشام، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه شمس الدين ابن قيم الجوزية، وتلميذ تلميذه الحافظ عبد الرحمن بن رجب رحمهم الله. فذكر لنا الشيخ عبد القادر عن قبريهما، وعرض علينا أن يقف بنا عليهما، فركبنا سيارتنا «الجيمس» وانطلقنا لمبنى جامعة دمشق حيث قبر شيخ الإسلام، وتلطف الشيخ مع البوّاب حتى أذن لنا بالدخول، ولسيارتنا بالوقوف في المكان المناسب، ووقفنا على قبر شيخ الإسلام ابن تيمية، فسلّمنا عليه ودعونا له ولمرافقَيه، وهو مقبور في مقبرة الصوفية المعروفة، ولكنها أُدخلت أخيراً في مباني الجامعة، ولم يبق منها إلا زاوية صغيرة فيها قبر شيخ الإسلام، مكتوب عليه اسمه، وتحته قبر أخيه شرف الدين عبد الرحمن، وتلميذه ابن كثير رحمهم الله.
ثم انطلقنا إلى قبر ابن القيم رحمه الله في مقبرة باب الصغير، فدخلنا، ووجدناه على يسار الداخل من الباب، مكتوب عليه اسمه، فسلّمنا عليه، ودعونا له، ثم انصرفنا.
ثم اجتمعنا بفضيلة الشيخ في دعوة من الشيخ سليمان الحَرَش، دعانا في مزرعة بـ«صًحْنايا»، وحضر الشيخ عبد القادر ضمن المدعوين، وتمتعنا بأحاديثه.
وبعد ذلك بمدة زارنا الشيخ عبد القادر في الرياض، وجعلنا له دعوة كبيرة، حضرها جمع من الإخوان، ولما دخل علينا واستقر به المجلس قال: نحب نتعرف على الإخوان، كل باسمه، أولاً: أنا عبد القادر الأرناؤوط. وعرّف بنفسه، ثم الذي على يمينه، والذي بعده، حتى تكاملوا، ثم حدّثنا بحديث صلاة عمار بن ياسر الذي رواه أبيّ رضي الله عنهما، حينما صلّى بهم فخفّف الصلاة، فسألوه عن ذلك، فقال: لقد دعوت الله فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فلما قام تبعه رجلٌ من القوم -هو أبيّ- غير أنه كنّى عن نفسه، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين».
وتوفي رحمه الله في عام 1425.
• بحكم معرفتكم بكتب المذهب فما الذي تنصحون به المبتدئ بطلب العلم من كتب الحنابلة رحمهم الله.
أولاً نقول: إن الإمام أحمد رحمه الله لم يؤلف كتابا في الفقه، مثل ما ألّف الأئمة الثلاثة أبوحنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، أما هو فلم يؤلف كتابا في الفقه، وكان ينهى عن التقليد، وقال: «لا تقلّدوني ولا تقلدوا مالكا، ولا تقلدوا فلاناً ولا فلاناً، خذوا من حيث أخذنا». لكنه ألّف في الحديث، وفي التفسير، يقال إن تأليفه في التفسير بلغ مليون حديث، كما قال بعضهم:
حوى ألفَ ألفٍ من أحاديث أُسنِدت
………………………….
وألّف في الرجال، وألّف في العقيدة وغيرها، لكن له أصحاب كثيرون، ذكرهم أصحاب طبقات الحنابلة، كابن أبي يعلى وغيره، فأصحابه يسألونه ويستمعون أجوبته لهم ولغيره ويدونوها، فلما توفي الإمام أحمد قام الخلال من أكبر أصحابهم، وتتبع الأصحاب وأخذ ما عندهم من فتاويه، منهم من عنده عشر مسائل، ومنهم من عنده أكثر، ومنهم من عنده أقل، حتى الذي عنده مسألة واحدة، فكان الخلال يتتبعهم، وربما سافر يطلب ما عندهم، حتى تحصل له عدد كثير، جُمعت في جامع الخلال، ولكنه مع الأسف فُقد، ولم يُعثر عليه كاملاً، إنما وجدوا أجزاء منه، وقد طُبعت بعض مسائل الإمام أحمد، ومنها مسائل الإمام أحمد لابنه عبدالله، ومسائل الإمام أحمد لابنه صالح، ومسائل الإمام أحمد لأبي داود، ومسائل الإمام لابن هانئ، إلى آخره، فجمعها.
ثم قام الإمام أبوالقاسم الخِرَقي، وألّف كتابه «مختصر الخرقي»، جمع تلك المسائل ورتبها على أبواب الفقه، وصارت كتاباً مستقلاً، ففرح به الأصحاب، واعتنوا به، وخدموه، وشرحوه بعدة شروح وتعليقات وحواشي ونظم وغير ذلك، فمن شروحه «المُغْني» لابن قدامة 15 مجلد، وبعضها 12 مجلد، ومنها «شرح الزَّرْكَشي»، الذي حققه الشيخ عبد الله بن جِبْرين، وله شروح أخرى، حتى قيل إنها تقارب ثلاثمائة كتاب، ما بين اختصار، وشرح، وتعليق، وحاشية، ونظم، وغير ذلك، ذكرها الشيخ عبد الله بن جبرين في مقدمة تعليقه على الزركشي.
وصار الأصحاب يؤلفون على ترتيبه، حتى جاء الموفَّق أبومحمد عبد الله بن محمد بن قدامة بعد ثلاثمائة سنة تقريباً، فألّف كتاب «المقنع»، وزاده مسائل، وجعله على روايتين ووجهين، وخالف ترتيب الخرقي في بعض الأبواب، فلما رأى الأصحاب المقنع: عدلوا عن ترتيب الخرقي، وصاروا إلى ترتيب المقنع، وخدموه بالشروح والحواشي والتعليق، من شروحه «الإنصاف» للمرداوي، و«نظم ابن عبد القوي»، نظم على قافية الدال، ومن شروحه «المُبْدِع»، حتى قيل إن له ما يقارب ثلاثين شرحاً أو تعليقاً أو نظماً أو مختصراً.
ثم بعد ذلك بمدة تقارب ثلاثمائة عام قام الشيخ موسى الحَجّاوي فاختصر المقنع في كتاب سماه «زاد المستقنع» على قول واحد، قال فيه: أما بعد، فهذا كتاب مختصر في الفقه من مقنع الإمام الموفق أبي محمد على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد. فلما ظهر هذا المختصر في مجلد لطيف عكف عليه الناس بالحفظ والدرس والتدريس، إلا أنه كما قال بعضهم: بالغ في الإيجاز حتى عُدَّ كأنه من الألغاز، عكس ما مشى عليه صاحب «دليل الطالب» الشيخ مَرْعي بن يوسف المقدسي، الذي قال فيه: بالغتُ في إيضاحه رجاء الغفران، وبيّنت فيه الأحكام أحسن بيان. وصار هذان الكتابان: «زاد المستقنع»، و«دليل الطالب»، كفَرَسَيْ رهان، من الناس من يفضّل هذا، ومنهم من يفضّل هذا، فدليل الطالب أوضح عبارات، وأوضح تقاسيم وأنواع، وكان أوائلنا يُبدِّؤون الطلاب أولاً في «دليل الطالب» لأنه أوضح وأسهل عبارات، ولكن «زاد المسنقنع» أكثر مسائل، وقد شرحه الشيخ منصور البهوتي رحمه الله بشرح مختصر مفيد، سماه «الروض المُرْبِع»، حل عباراته وأوضح إشاراته، وقيّد بعض مطلقاته، وقرّبه لطلاب العلم، ثم وُضعت عليه عدة حواشي، بعضها مخطوط، وبعضها مطبوع، وأول ما طُبع منها فيما علمت حاشية للشيخ عبد الله أبا بطين في مجلدين، ثم حاشية الشيخ عبد الله العنقري في ثلاثة مجلدات، ثم حواشي الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في سبعة مجلدات، وهي أجودها وأوسعها وأنفعها.
أما مختصرات متون الحنابلة فكثيرة، منها:
• العُمدة للموفق بن قُدامة.
• والتسهيل للبَعْلي.
• وزاد المستقنع مختصر المقنع لموسى الحَجّاوي.
• ودليل الطالب لمَرْعي بن يوسف المقدسي.
• وأخصر المختصرات للبَلْباني.
• وآداب المشي إلى الصلاة لمحمد بن عبد الوهاب.
• وعمدة الطالب لمنصور البهوتي.
• وكافي المبتدي لابن بَلْبان.
• وما لا بد منه، للشيخ أبي بكر خوقير.
• وتحفة الراكع والساجد للجراعي.
• وبداية العابد وكفاية الزاهد لعبد الرحمن البَعْلي.
• وتوضيح الفقه المبين، لعبد الرحمن السعدي.
•والعمدة في الفقه، لأحمد بن عبد الرحمن بن قاسم.
• أحسن الله إليكم: ما بين مرحلة الطلب إلى مرحلة المشيخة، كيف ترون اليوم طلبة العلم، وحبذا لو ذكرتم بعض الفروق إن وُجدت بين جيلكم في أثناء الطلب وبين طلبة العلم اليوم.
الفرق واضح، كنا في أول طلب العلم ليس هناك مدارس الابتدائية ولا الثانوية، فضلا عن الجامعة والماجستير والدكتوراة، نتردد على حلقات المشايخ في المساجد، ونطلب منهم الجلوس لنا، فمنهم من يوافق، ومنهم من يعتذر، ولا كتب دراسية، ولا مكافآت تشجيعية، فضلا عن الرواتب الشهرية، نستعير الكتب من بعض الناس، فمنهم من يسمح، ومنهم من يعتذر، وكل طالب يعتمد على نفسه في حفظ القرآن وبعض المتون المختصرة، مثل ثلاثة الأصول، والآجرّومية، والرحبية، في نطاق ضعيف، والناس عندهم فقر وفاقة وحاجة، الغلام إذا بلغ مثلاً عشر سنين يحتاجه أهله ليخدمهم في أمورهم ويحصّل لهم شيئاً، ما يفرّغون أولادهم لطلب العلم وينفقون عليهم.
أما الآن فالحكومة أيدها الله هيّأت لطلاب العلم وسائل الراحة من كل جانب، وبنت المدارس والمعاهد والكليات، ورتبت للطلاب الرواتب المغرية، وجلبت لهم العلماء من الخارج لتعلمهم العلوم النافعة من تفسير وحديث وفقه وعقيدة وعلوم الآلة والنحو والبلاغة وغيرها، ورتبت لهم الرواتب المغرية، ونظمت لهم فصول التعليم والاختبارات والشهادات الرسمية والتشجيعات الأدبية، فما بقي لأحد عذر من هذه النواحي، فجزى الله القائمين على هذا أحسن الجزاء.
• أحسن الله إليكم: في الكتاب الذي أُلِّف عنكم ذُكر أنه صُلِّيَ عليكم صلاة الغائب، ما أصل هذا الخبر؟[21]
هذا يُأتى به للتندر! كنت خرجت مع الهيئة التي تحدد الحدود بين المملكة العربية السعودية ومملكة اليمن في منطقة «جازان»، نحن في منطقة «جازان»، وهؤلاء في منطقة «مَيْدي وحَرَض» وما حولها من بلاد اليمن، فاتفق الطرفان على أن تخرج هيئة تحدد الحدود، فانتُدب لذلك عمنا الشيخ عبد الرحمن بن عقيل قاضي جازان، وأمير جيزان عبد الله بن عُقيِّل بالتصغير، ومدير مالية جازان عبد الله قاضي، وخرجتُ معهم، وكانت الأمور تلك الأيام تعب ومشقة وكلفة، وهناك مرض الملاريا، أصابتني الملاريا ونحن في قرية يقال لها «الخَوْبة»، بلاد الحرث، مكثت الهيئة مدة طويلة في مناقشة بين لجنة الحدود اليمنية ولجنة الحدود السعودية، وأنا مرضتُ مرضا شديداً، وكان معنا في المعسكر واحد من الخوبا يُقال له ابن عَقيل، مَرِض كذلك مرضاً شديداً وتوفي رحمه الله، فشاع الخبر أن ابن عقيل توفي، فظنوا أني أنا الميت! وكان ذلك يوم جمعة، فقام الخطيب بعدما صلى الجمعة، وقال: صلوا على أخيكم الشيخ عبد الله بن عقيل الذي توفي مع الهيئة. وصلّوا عليّ صلاة الجنازة للغائب.
بعد ذلك تبين الواقع؛ فصاروا يتندّرون عليّ ويقولون: خلاص أنت إذا متّ ما نصلي عليك، قد صُلّيَ عليك أول مرة! هذه هي القصة.
• شيخنا المبجل: تكرموا بإسداء نصح أو نصيحة وتوجيه إلى طلابكم الحاضرين معكم والسامعين لكم.
أما الوصية فوصية الله للأولين والآخرين بتقوى الله تبارك وتعالى، فعلى كل واحد منا أن يتقي الله في ما يعامل به نفسه، وفي ما يعامل به ربه، وفي ما يعامل به أولاده وأهل بيته وجيرانه وإخوانه من المسلمين، فقد جمع النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الثلاث لمعاذ حيث قال: «يا معاذ، اتق الله حيثما كنت، وأَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناس بخُلُق حسن». ثلاث وصايا، الأولى في سياسة الإنسان بينه وبين ربه، الثانية في سياسته لنفسه، الثالثة لسياسته مع الناس.
كما أوصي أبنائي الطلاب بحفظ الوقت، فإن الوقت كالسيف، إن قطعته وإلا قطعك، وهذه الكلمة تُروى عن الإمام الشافعي، كما جاء كلمة عنه جامعة أخرى: «النفس إن أشغلتَها بالحق وإلا أشغلتْكً بالباطل».
وقال بعضهم:
الوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه
وأراه أسهلُ ما عليك يَضيعُ
حفظ الوقت من أهم ما يكون، لئلا يضيع في الاسترسال مع المباحات، بل ربما جرَّ إلى ما هو أسوأ من ذلك، فليحذر الإنسان من تضييع الأوقات في الأماني الفاضية وأحلام اليقظة.
وأهم شيء المحافظة على الصلوات الخمس التي فرضها الله تبارك وتعالى، ورتّبها على ساعات الليل والنهار، قالوا: إن شجرة الإيمان تحتاج إلى من يتعاهدها بالسقي مثل ما يسقي الشجرة الحسية: يسقيها الصباح، ويسقيها الظهر، ويسقيها العصر، ويسقيها المغرب، ويسقيها العشاء، فيصلي الظهر وقت الزوال الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم -: «هذا وقتٌ تُفتح فيه أبواب السماء»، يتطهر الإنسان، ويصلي الراتبة القبلية، ثم يصلي الفريضة، ثم يصلي الراتبة البعدية، ثم يذهب إلى عمله الذي يسره الله، وكذلك العصر، والمغرب كذلك، والعشاء كذلك، ولما كان ما بين العشاء والفجر وقت طويل مظنة الغفلة، نُهي الإنسان عن الحديث بعدها إلا لطلب علم، أو حديث مع الأهل، أو ما فيه نفع وفائدة، ولما كان ما بين الفجر والظهر وقت طويل أيضاً شُرع له صلاة الضحى، حتى يصير على علاقة مع ربه باستمرار، فإذا الإنسان واظب على هذه الفرائض والنوافل فيُرجى له أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات
وأما طلب العلم: فعلى طالب العلم أن يبدأ بالأهم قبل المهم، فيأخذ أحد المختصرات ويحفظه عن ظهر قلب، ويقرأ به على شيخه حتى يتقنه، ولا ينتقل منه حتى يكمله، ثم يشرع في كتاب آخر، وهكذا.
ولا يحصّل العلم متكبر ولا ملول، ولا مستح ولا كسول.
• يقول إن أمه مريضة، يطلب من الشيخ عبد الله أن يدعو لها بالشفاء والعافية.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يشفيها، اللهم اشفها وعافها، اللهم اكتب لها الشفاء والعافية.
وأختم كلمتي بالدعاء الصالح: اللهم صل وسلم على محمد، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولوالدي والدينا، ولكل من له حق علينا، اللهم أصلح نيّاتنا وذرّيّاتنا وأزواجنا، وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت، اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرّ شرارنا، وأصلح ووفّق ولاة أمورنا، ووفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفقه وولي عهده، وإخوانه، وأعوانه، واجعلهم دعاة للحق، وأيّد بهم الدِّين يا رب العالمين، ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صل على محمد.
• جزاكم الله خيرا يا شيخنا، أثابكم الله، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله
________________________________________[1] وأقترح أن يُبعث إليه ما يعرفه الآخرون عن الشيخ ابن عقيل مما لم يُنشر، ليضع ذلك في طبعات الكتاب القادمة إن شاء الله (السدحان).[2] طُبعت هذه المراسلات بعنوان «الأجوبة النافعة»، ثم ألقى شيخنا حفظه الله محاضرة عن حياة شيخه العلامة السعدي، وطُبعت أيضاً.[3] فائدة: تكلم شيخنا عن ترجمته الذاتية في لقاء قناة المجد الفضائية، ضمن برنامج «صفحات من حياتي»، وكذا في لقاءات أخرى، وفي ختام محاضرته: «الشيخ عبد الرحمن بن سعدي كما عرفته»، وهي في المطبوعة (ص51-58)، وله ترجمة ذاتية موجزة مذكورة بنصها في «فتح الجليل» (ص146-149).[4] سألتُ شيخنا بعد درس الروض المربع ليلة الاثنين 5/11/1429: هل كان شيخكم محمد بن إبراهيم يتوسع في الشرح، أو تعليقاته مختصرة في الدروس؟ فقال: شيخنا ابن إبراهيم كان يشرح ويمثِّل ويأتي بالدليل، والغالب أنه يتقيد بالمذهب، وكذلك الشيخ العنقري، لا يخرجان عنه، ويذكران القول الآخر، إلا إذا كان الدليل قوياً وظاهراً، بخلاف شيخنا ابن سعدي.[5] ألقى شيخنا محاضرة بعنوان: «الشيخ عبد الرحمن السعدي كما عرفته»، وطُبعت بعناية الأخ الشيخ عبد الرحمن بن علي العسكر وفقه الله.
وانظر: فتح الجليل (ص42-49 و65-67 و311-315 والفهرس).[6] قلت: قيّدت عن شيخنا -أمدّ الله عمره على الخير والعافية- قبل درس مسند أحمد عصر السبت 19/8/1428 فوائد نفيسة عن الشيخ العلامة صالح القاضي، فقال: «أدركت الشيخ صالح القاضي وكان شيخنا ابن سعدي بعد أذان العشاء يقرأ في تفسير ابن كثير على شيخه القاضي، وأنا أسمع، أصلي كل ليلة معه العشاء، قبل أذان العشاء بعشر دقائق، الشيخ ابن سعدي يجلس في الصف، والشيخ صالح القاضي في المحراب، قرأ عليه سنين طويلة، أما قراءة كتب الحديث وحلقاته ما أدركتها، كان توقف عن الإقراء مثل من توقف شيخنا محمد بن إبراهيم آخر حياته.
كما أدركت الشيخ صالح يصلي العصر، ويُقرأ عليه حديث في المشكاة ويتكلم عليه، وصلاة العشاء قراءة ابن سعدي عليه في التفسير، ولكن قلّ ما يعلق، بضع كلمات، فحضرت عليه في المشكاة أيضاً، وكان يحضر الناس في مجلس عظيم، يأتي الناس من أطراف البلد والقرى، يُقرأ عليه ويقرِّر.
وأول إدراكي على الشيخ صالح حول سنة 45، أروح مع الوالد، وصلاة العشاء كان يدفئني بمشلحه، ما كان عندي مشلح.
ويذكرون أن امرأة جاءت للشيخ صالح القاضي وهو في القضاء، وأرته وصية أمها، فقال: اتركيني أتأملها. ووضعها في لفافة خضراء، ثم مات، وجاءت لهم تطالبهم بالوصية، فقالوا: لم نجدها. فرأت الشيخ في الرؤيا يقول لها: وصيتك في لفافة خضراء ضمن إبريق مكسور العروة في المكان الفلاني. فجاءت وأخبرتهم، فوجدوا كما قال!
ولما توفي سنة 1351 كان عمري 16 سنة، ذهبت للمقبرة، وكانوا يعزّون ولده الشيخ عثمان، وهو طويل نحيل، وكان يهز، فجاء الهزّاعي وأمسكه كي لا يقع، وهو يكرر: استجاب الله دعاءكم، وغفر لنا وإياكم. كأنه أمام عينيّ.
وفي مرض موت الشيخ صالح كان يستقبل الناس، ويبحث معهم، وزاره الوالد أكثر من مرة، وكنت أروح معه، وكان رحمه الله أنيساً، وهو في مرضه يداعب ويلاطف كل إنسان.
وكان الشيخ صالح مربوعاً بديناً، ليس قصيراً، ولكنه ضخم».
وقال لنا في درس آخر ليلة 24/8/1427: «الشيخ صالح تولى القضاء من سنة 24 بعد ابن جاسر، إلى أن توفي سنة 51، وتولى بعده شيخنا ابن مانع، ومن طلابه سليمان العثيمين عم الشيخ، ومن البساك كذا واحد، ومن القواضى كذا واحد، ويقولون إن ابنه عثمان كان يقرأ في التاريخ ويذهب عليه الوقت، فكان يحبس مكتبته عنه حتى لا يضيع وقته. وكان الشيخ صالح صاحب فراسة، وحسن أدب، ولطافة، وكان صلباً في القضاء وقوياً فيه، ما يلين لأمرٍ ما، ويقول لي الوالد: كان واحد -ترجم له البسام- قاضي، يقال له العماني، رجل طيب، وطالب علم وصدوق وحبيب، وهناك قضية في مزرعة في حدود بينهم، وقال للشيخ صالح: أريد أن تظهر جهتنا تشوف بعينك هذه الحدود. فقال: ما يخالف. وواعده بعد الإشراق، ووضع ذاك عزيمة كبيرة، والتاجر موسّط القاضي العماني، فلما صلى الضحى وطلع الشيخ إذا بأمة من الناس! فقال للشيخ: ما رأيك في القضية؟ قال: ما له حق فيها! ثم في الطريق قال: أنا سأذهب للعزيمة ونفسد الزرع والحق ليس معه! فانسل في الطريق، ورجع».
وانظر: فتح الجليل: (33 و34 والفهرس).[7] انظر: «فتح الجليل» (ص49-50 و352-356)، ومقدمة «النوافح المسكية» (ص6).[8] انظر فتح الجليل (ص36-39 و337-338 والفهرس).[9] انظر: فتح الجليل (ص60 و75-77 و185).[10] توفي رحمه الله أثناء تصحيح تجارب هذا الكتاب في 20/7/1429، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه.[11] قال لنا شيخنا استطراداً في أحد دروس المسند: إن العلامة السعدي كان يخصص الثلاثاء لمشاويره وحاجاته الخاصة، كي لا يضطر لقطع الدروس.[12] انظر: فتح الجليل (ص124).
وحدثنا شيخنا -أمتع الله به- استطراداً في أحد دروس الروض المربع، قال: «الشيخ أحمد شاكر رأيناه في بيتنا، وعند محمد بن إبراهيم، وأثنى على شيخنا ابن سعدي، وقال: ردُّه على الصعيدي [يعني عبد الله القصيمي] أحسن الردود. وقلنا له عن شرح المسند، وسألتُه عن شرح البنّا، فقال: هو يؤول الصفات؛ ولا أوافقه. وكان شيخنا محمد بن إبراهيم يحبّه [يعني: أحمد شاكر]، ويعظّم شرحه للمسند، وكلّمه فيه». قلت: كأنه يعني ليتفرغ له ويتمّه.[13] وحدثني شيخنا -بارك الله في عمره وعلمه وعافيته- قال: «كان شيخنا محمد بن إبراهيم رحمه الله متشبعاً بعلوم الشيخ سعد، ويثني عليه، ويرى أنه الشيخ الوحيد، وأنه صاحب اتزان، وصاحب ثبات، وله الأجوبة والفتاوى».[14] انظر: فتح الجليل (ص137-138 و290).[15] أفرد شيخنا رسالة وجيزة ماتعة عن ذكرياته وعلاقته بسماحة الشيخ ابن باز.[16] انظر: فتح الجليل (ص155-157).
ورأيت شيخنا لما أُهدي له كتاب الألباني «صفة الصلاة» -الأصل- سُرَّ به، وقال: ما شاء الله! هذا أستفيد منه، والألباني نعتقد أنه علامة، عالم، وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه، وكن أكثر ما سرّني منه مختصره للبخاري، وهو أحسن من مختصر الزبيدي. ا.هـ. قيدته عنه في منزله بتاريخ 3/4/1427.
وكتب شيخنا مؤخراً مقدمةً ضافية لكتاب فضيلة الشيخ السدحان عن الإمام الألباني، وفيها ثناء عطر عليه.[17] انظر: فتح الجليل (ص127 والفهرس).[18] انظر: فتح الجليل (ص118).[19] انظر: فتح الجليل (ص119).[20] انظر: فتح الجليل (ص157-158 و232 والفهرس).[21] انظر: فتح الجليل (هامش ص61-62 و282).