أيام مع الشيخ عبدالله العقيل – د/ راشد العبدالكريم

فقدنا قبل أيام عالما جليلا، أفنى حياته في طلب العلم والتعليم، وعاش على ذلك حتى آخر حياته، ذلك هو الشيخ عبد الله بن عقيل رحمه الله.
ومعرفتي بالشيخ قديمة حديثة، فقد عرفته أيام الدراسة الجامعية، حيث كنت أصلي في مسجده وأستمع أحيانا إلى بعض دروسه بين الأذان والإقامة لصلاة العشاء، ولم أكن أعرف من هو الشيخ، إذ لم يكن الشيخ مشهورا، وأنا لم أكن على معرفة بالعلماء في ذلك الوقت، ثم انقطعت عنه سنوات قاربت الثلاثين عاما، حتى اقترح علي بعض الأصدقاء من المشايخ ممن يزوره ويقرأ عليه في بعض كتب العلم الشرعي أن أصحبه، واقترح أن أقرأ عليه كتابا في الحديث، فاخترت مختصر صحيح البخاري للزبيدي، وذهبت إليه، وكان من عادته أن يستقبل الزوار من طلبة العلم في صالة صغيرة في مقدمة بيته مهيأة لجلوس قرابة العشرة أشخاص، يتناوبون القراءة عليه في متون وكتب شتى، والشيخ يستمع ويعلق تعليقات يسيرة، وكان كل طالب علم يأتي وكتابه معه، وينتظر حتى يأتيه دوره في القراءة.
دخلنا عليه فاستقبلنا استقبالا حسنا واحتفى بنا، ولما اقترحت القراءة عليه في مختصر الزبيدي للبخاري اقترح هو مختصر الألباني، وأثنى على المختصر ثناء كبيرا، وقال: إن الألباني يقول إنه خير كتبه. وشرعنا في القراءة عليه، وكنت أزوره بحسب أوقات الفراغ، وهو عادة يجلس لطلبة العلم في أوقات مختلفة، وكنت آتيه وقت الضحى بعد الساعة العاشرة صباحا، وربما مررت به بعد العشاء مباشرة، وكان يحب القراءة في مختصر البخاري، وإذا ابطأتُ عليه أثنى على الكتاب ثناء يعاتبني به – رحمه الله – على التأخر عنه، وربما صرّح بعتبه.
وكان أحيانا يقدّم القراءة فيه على غيره من الكتب حتى لو أتى أصحابها قبلي، ويسمح لي بالإطالة ما لا يسمح لغيري، لحبّه للكتاب، وقد قرأت عليه أكثر من نصف المجلد الأول. وسجلت عليه بعض تعليقاته.
كان رحمه الله على كبر سنه محبًّا للكتب، يتبين ذلك من فرحه بها وحرصه على اقتنائها واهتمامه بها، أهديته كتابَيَّ (الدروس اليومية) و(طريق النجاح)، ولم أكن أظن أنه سيحفل بهما، لأن الأول، وإن كان كتابا دينيا، إلا أنه كتاب معاصر ومكتوب لعامة الناس وليس للعلماء أو طلبة العلم، والثاني كتيب صغير في تطوير الذات وموجه بالأساس للشباب، فأخذهما باهتمام وتصفحمها على الفور، وناقشني في محتواهما، ولم أعجب من إقباله على كتاب الدروس اليومية، فهو كتاب علم شرعي، لكني عجبت من اهتمامه بكتاب (طريق النجاح)، حيث تصفحه وقرأ فيه، وسألني هل هو مثل كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) لكارنيجي؟ فتعجبتُ من معرفة الشيخ لهذا الكتاب، وقال إنه قرأ كتاب كارنيجي وأثنى عليه.
كان الشيخ رحمه الله باذلا نفسه لطلبة العلم، فاتحا بيته لاستقبالهم، بشكل يعز نظيره، فهو يجلس لهم إذا كانوا جماعة في المسجد المقابل لبيته، ثم ينتقل إلى بيته ليفد عليه الطلاب الذين يريدون القراءة عليه بشكل فردي في كتب هم يختارونها، وهو صابر واسع الصدر لكل من يقصده، بغض النظر عن مستواه العلمي، فتراه يقرأ عليه من يحمل الدكتوراه في الشريعة، ويقرأ عليه طالب العلم الصغير، وهو محتسب لإفادة الجميع على مرضه وكبر سنه، وكأنه يرى أن ذلك واجب عليه، وهذه صفة في كل العلماء الأثريين، فهم يرون أن الجلوس لتعليم الناس عبادة يتقربون بها إلى الله، ولكم رأيته يغالبه النوم والإجهاد وهو جالس يستمع لقراءة الطلاب، وربما قطع القراءة للإجابة على الهاتف الذي غالبا ما يكون من مستفتٍ يسأل، فيجيبه باختصار ثم يعود للقراءة.
أحضرتُ مرة معي كتاب (فتح الجليل)، الذي هو عبارة عن سيرة للشيخ وتوثيق لأسانيده عن مشايخه (ثَبَت)، طمعا في أن يكتب لي عليه إهداء بخطه أحتفظ به، ولم أكن أطمع بأكثر من ذلك، وعدتُ له بعد أيام لآخذه فوجدته قد كتب لي إجازة علمية، فشكرته عليها، لما لها من قيمة رمزية بالنسبة لي أكثر منها علمية.
وقد جمع الشيخ بين العلم والتعليم وحسن الخلق ولين الجانب والعبادة، فقد كان مبادرا لصلاة الجماعة ومحافظا على النوافل على ضعف جسمه الشديد ومرضه، وكنا نفتقده أياما كل شهر، فعلمت أنه يذهب تقريبا لمكة كل شهر يعتمر ويصوم فيها الأيام البيض، وهو أمر تعود عليه ربما منذ شبابه؛ فكَرِهَ أن يتركه حتى بعدما كبرت سنه وثقل.
بوفاة الشيخ رحمه الله وأعلى درجته، تكون طبقةُ جيل الرواد في هذا البلد المبارك قد شارفت على الانتهاء، جيل العلماء المنقطعين للعلم الشرعي تعلما وتعليما، المعرضين عن الدنيا، المتواضعين لطلاب العلم، والذين يحرصون على البعد عن الشهرة كما يحرص غيرهم عليها. آجرنا الله في مصيبتنا وأخلف لنا ولأهله خير منها، ورحم الله الشيخ.