تحفة النبيل بأخذ الدروس من شيخنا ابن عقيل – الكاتب الشيخ خالد بن علي بن صالح أبا الخيل
الحمد لله وحدة والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
لقد كان نبأ وفاة شيخنا الجليل عبد الله بن عقيل مصيبة، حيث كان هذا العَلَم إمامًا في العلم والعمل والدعوة والتعليم، ولي معه دروس؛ حيث إني ممن قرأ عليه أواخر عمره رحمه الله، في مكة المكرمة في الحرم الشريف، فقرأت عليه الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، ولامية شيخ الإسلام، وميمة ابن القيم، وسُلّم الأصول، وحائية ابن أبي داود، ومقاطع من النونية، ومقاطع من دليل الطالب، وزاد المستقنع، وعمدة الفقه، وغيرها، فاستفدت كثيراً، وعلّقت بحمد لله ما تيسر، وأجازني بما يرويه رحمه الله واسعة.
وإذْ أذكر ذلك حمداً لله وشكراً على أن جعلني ممن تتلمذ على هذا الإمام بقية السلف؛ ثم قدوة الخلف في المنهج الحنبلي؛ والمنهج السلفي: فلي معه دروس بما رأيت وشاهدتُ وقرأتُ حال قراءتي عليه في هذه المدة في مكة المكرمة، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
الدرس الأول: بذله للعلم والحرص عليه وجَلَده عليه، وأنا ممن رآه في آخر عُمُره في مكة يفوق التسعين، ومع ذلك رأيت منه في الحرم عجباً: يجلس بعد الفجر حتى ما بعد طلوع الشمس، ثم بعد الظهر ساعة أو ساعة ونصف، ثم بعد العصر كذلك، ثم بعد المغرب كذلك حتى أذان العشاء، صبرٌ على التعليم عجيب! في فنون متعددة وأسئلة متنوعة، وتعليقات جميلة مسددة، ومع ذلك تجده صائماً ولا يكلّ ولا يملّ ولا يتضجر.
فهو فريد عصره في بذل العلم والحرص على طلبة العلم، مع كبر سنه واجتماع الطلبة عليه، وتزاحمهم عند ركبتيه، فلا ينهر ولا يُنفِّر، حُباً للعلم وأهله.
الدرس الثاني: العمل بالعلم والعبادة، فتجده يكثر من نوافل الصلوات قبل الصلاة وبعدها، وبعد طلوع الشمس، رغم كبر سنه إلا إنك تشاهد منه العجب.
ونوافل الصيام فهو ممن يصوم أيام البيض في مكة، أي في كل شهر رحلة إلى مكة، صائماً، معلّماً، متعبداً، وقارئاً، ومصلياً، ناهيك عن الصدقات، والبذل والعطاء، ودعوة المساكين والفقراء معه على طاولة الطعام، فإذا رأيتَه تمثلت فيه القدوة الحسنة في العبادة والطاعة، وهكذا كان علماء السلف تطبيقاً لعلمهم وعملاً بما آتاهم الله، فهو نموذج في التطبيق، وهل يُراد من العلم إلا العمل؟
الدرس الثالث: التواضع، لا أدري من حيث أبدأ! أهو تواضعه للتعليم، والصبر على الآخرين، وإفادة السائلين، والتحمل الشديد مع كبر سنه؟ أم ْ تواضعه للتلاميذ وإيصال الفائدة إليهم؟ أم تواضعه في حرصه على الفوائد وكتبها إذا سمعها؛ لا أقول ممن هو أعلم أو أسن، لا بل من تلميذ! وربما كان التلميذ مبتدئاً! فقد رأيته مَرةً ذَكَرَ فائدة، فذكر أحد تلاميذه[1] على طرازها مثلها، فأخرج ورقة وفتح القلم وكتبها ومرجعها.
وذات مرة جلس العلامة ابن جبرين رحمه الله قريباً منه، فلما انتهى الدرس جاء يسلّم عليه، فأبى إلى القيام على كبر سنه، ومع تواضع ابن جبرين الشديد إلا أنه أبى إلا القيام، وربّما قبل رأسه! وكم بينهما من السن؟! وآخر.. وآخر مثل ذلك مع من رأيت من علماء ممن دونه سنًّا وعلماً.
الدرس الرابع: درس الجمال والبهاء والنظافة، فتجد شيخنا في تربية وتنظيمه ولباسه وحذائه وهندامه يعُنى بمظهره تطبيقاً لحديث: (إن الله جميل يحب الجمال).
فرغم الكبر محافظاً على مظهره الجميل، وترتيبه الدقيق، ورغم سنه الكبير فتشم منه الريح الطيبة والطيب الجيد.
وينشأ ناشئ الفتيان منا = على ما كان عودّه أبوه
الدرس الخامس: درس التحفيز، فكم حفّز من طالب علم على الاستمرار والطلب، بل هذا حصل معي شخصياً، فلماّ قرأت عليه بعض المتون المنظومة تعجب؛ وكأنه أعاد ذاكرته إلى زمانه المتقدم، زمان شيخه السعدي وبعده، فكان يواصل الدعاء، ويوصى بالطلب والجديّة، بلْ دعاني أن آتيه في منزله الميمون في الرياض، ولم آتِ لمرض الشيخ، والحمد لله على كل حال، فكم لنبرته ووصاياه من وقع في النفس.
والتشجيع أثره عظيم، ولهذا تجده يتواصل مع الطلبة ويأخذ أرقامهم، ويسألهم عن أحوالهم وبلادهم، ويسألهم عن أسمائهم، ويتواصل معهم.
وذات مرة قرأت عليه أبيات مُلَحّنةً؛ فتعجبَ وأَنِسَ واستبشر، وشجّعني على ذلك، بل وأمرني أن آتيه، فكم كلمة ثبّتت، وكم كلمة شجّعت، وكم كلمة أخرجت.
الدرس السادس: سؤاله عن الآخرين، وأحوال طلبة العلم والعلماء العاملين، بل والزهاد المتعبدين، فكم مَرّةً يسألني عن الزاهد العابد الورع فهد العبيد، وفلان، وفلان، وعن الشيخ الفقيه عبد الله الحسين أبا الخيل حفظه الله.
فهذا يعطيك درس المواصلة وقوة الرابطة، وسلامة الصدر، والتواصل بين العلماء وطلبة العلم بالمراسلة أو المهاتفة أو اللقاء أو الزيارة، كما أخبرني هو بنفسه، فقد أخبرني أنه راسل فلانا وزار فلانا، وتواصل مع فلان، وما تواصله ومراسلاته بينه وبين شيخه السعدي رحمهما الله ببعيد.
الدرس السابع: التسهيل والتبسيط بالشرح والتعليق، فلا تجده يتكلف، أو يأتي بفقه مقارن، أو يشتت الطالب، بل أسلوب جميل، يفك العبارة، ويحل المشكل، ويبين الغامض، ويوصل المعلومة، وهذا أهم ما يحتاجه طالب العلم، ولهذا يتخرج سريعاًَ.
ولهذا يشرح متونا فقهية في مدة قصيرة، فكم حَلَّ الزاد، ودليل الطالب، وعمدة الفقه، وغيرها؛ مما يمكث فيها أهل عصرنا سنين عديدة، وقليلاً ما يكْمَلُ! فهو من الطراز الأول في التعليم والتبسيط والتسهيل، ولهذا أخرج وأنتج.
الدرس الثامن: الحرص على اقتناص الفوائد، فمع كبر سنه وسعة علمه وجلوسه وتعليمه إلا أنه لا يفوّت على نفسه الفائدة، فكما سبق لما ذَكَر فائدةً تتعلق باللحية جاء الشيخ محمد العجمي بفائدة نظيرة لها؛ فأخرج ورقة وفتح القلم، وسأل الشيخ: أين قرأتها؟ وفي كتاب مَنْ؟ فسجَّلها. ولهذا نظائر.
وهذا تطبيق لمقالة إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد رحمه الله: (العلم من المحبرة إلى المقبرة) فلم يقل الشيخ: العمر كبير. أو: أستحي من الطلبة أنها لم أقرأها أو أعرفها ! ولم يقل: آخذُها من في وقت لاحق. بل هو درس تربوي تطبيقي، ولهذا فوائد منها:
1- الحرص على الفوائد وكتابتها. 2- درس لمن يراه من طلبة العلم على الحرص على اقتناص الفوائد وعدم فواتها. 3- وكذا التواضع للعلم.
4- وكذا أخذ الفائدة والعلم ممن جاء به. 5- أن الفائدة إذا لم تقيد تطير وتذهب.
الدرس التاسع: مما لاحظته على شيخنا الإتيان بالقصص والطرائف والحِكَم والألغاز مما يتعلق بالدرس أو ما يقرب منها، ولهذا تأثير عظيم على الطالب، وينشط القارئ، ويطرد السآمة والملل، وأيضاً فيه أخذ العبر، وكذا تعليق الخلف بالسلف، والتشجيع والتثبيت
الدرس العاشر: بداعة التقسيم، وإلحاق النظير بنظيره، والمثيل بمثيله، وتقسيم المعلومات وترتيبها، وذكر الأعداد، وهذه تنمي الأذهان، وتوسع الأفكار، وتقوي المدارك، وتوصل العلم، وتربط بعضه ببعض، وتعين على الفهم، فمثلاً: ذكر الأربعين في عدة مواطن: كالنفاس، ومُصدِّق العراف، والعبد الآبق، ونحو ذلك. وذكر الإيلاج في كذا وكذا، وله من الأحكام المتعلقة به كذا وكذا، فما أجمل العلم إذا ربُط بعضه ببعض.
فهذه عشرة دروس مكية، وقد يشاركني فيها غيري، والدروس كثيرة، والفوائد غزيرة، وهذا ما حضرني ودار في خلدي مع قصر ُمدة طلبي عليه.
غفر الله لشيخنا، وأسكنه فسيح جناته، ومنحه رضوانه، كتبتها وفاءً لشيخي، ونبراسا لطلبة العلم، وتوصية لأهل العلم، ونفعاً للغير.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.