تجربتي في طلب العلم عند الشيخ عبدالله العقيل

تجربتي في طلب العلم عند الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل*رحمه الله
نويت أن اطلب العلم عند الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل رحمه.
كان الوقت مناسبًا لي آنذاك، حيث كنت أجد متسعًا من الوقت للذهاب إلى العلماء لطلب العلم.
كنت أمني نفسي بالقراءة عليه وطلب العلم على يديه.
فمن هو الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل؟
حتي تعرف منزلة الشيخ وعلمه يكفي أن تسمع عبارة كانت تتردد آنذاك تصفه بأنه: (أعلم أهل الأرض في زمانه بالفقه الحنبلي)، أو (أعلم علماء الحنابلة على وجه الأرض بالفقه الحنبلي)، وقد سمعتها كثيرًا من علماء وطلبة معاصرين.
الشيخ ابن عقيل يعد من أسنّ تلامذة العلامة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي (ت1376 للهجرة) رحمه الله، وهو أسنّ من الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وقد انشغل ردحًا طويلًا من الزمن بالقضاء، ومايتعلق به من لجان، وهيئات، ومجالس رسمية تهتم بالفقه وفض المنازعات وغيرها، مع استمراره في بث العلم وتدريسه له، لكنه كرس بقية عمره للعلم بعد تقاعده، ففتح بيته وقلبه لطلبة العلم، وبدأ بتدريس العلم عامة، والفقه خاصة لمن يأتيه من الطلاب، لاسيما الفقه الحنبلي.
استمر على ذلك، حيث كان بيته في شارع الخزان، مفتوحًا للطلبة، حتى انتقاله إلى بيته الجديد في حي الهدى (جنوبي حي السفارات بالرياض)، واستمر على ذلك إلى أن توفاه الله عز وجل عام (1432للهجرة) .
إبان حماسي للقراءة على الشيخ، كان الشيخ آنذاك يعد من العلماء المعدودين في الساحة العلمية، والذين يشار إليهم بالبنان بعد وفاة الإمام ابن باز والعلامة ابن عثيمين رحمهما الله، وله مناشط علمية في المساجد يعلن عنها هنا وهناك بين آونة وأخرى، فيحضرها جم غفير من طلبة العلم.
أذكر منها شرح كتاب الشيخ السعدي (منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين)، أو (إرشاد أولي البصائر والألباب) – والشك مني – وقد حضرت دروسًا فيه، والحق يقال أعجيتني طريقة الشيخ في التدريس، فهو لا يعلق إلا إذا استدعى النص التعليق، لذا تجد القاريء يقطع شوطًا في القراءة، وتجد أن وقتك محفوظ في عدم تكرار مسائل معروفة يستغرق الوقت في ذكرها، وأذكر أنه قال في درس منها: “قال الإمام الشافعى رحمه الله: ركعتان يصليهما المرء فيهما خمسمائة سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم”، وقد بحثت عن العبارة فلم أوفق إليها، والذي وجدته ما جاء عن ابن حبان رحمه الله: (في أربع ركعات يصليها الإنسان ستمائة سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم).
أذكر حضرت له مجلسين في أحد المساجد بين المغرب والعشاء، قُرأ عليه فيهما كتاب (الثلاثيات التي في مسند الإمام أحمد بن حنبل) للحافظ إسماعيل بن عمرو المقدسي (ت623للهجرة)، والكتاب في (171صفحة دون الفهارس)، وتم الانتهاء من الكتاب في مجلسين اثنين فقط: يوم السبت الموافق للثالث والعشرين من شهر صفر عام 1429للهجرة، والثاني بعده بأسبوع يوم الاحد الموافق للأول من شهر ربيع الأول عام 1429 للهجرة، مع إجازة للكتاب من الشيخ للحاضرين، ولجميع مروياته عامة، وهذا يذكرنا بطريقة السلف في قراءة الكتب المطولة من خلال مجالس معدودة.
كان المعدّون للمجلسين قد وعدونا بشهادات إجارة للكتاب، ومرويات الشيخ، ولكني لم أنلها لأن الحصول عليها يتطلب الحضور في يوم آخر بعد انتهاء المجلسين، ولم أحضر، ويظهر أن الكثير مثلي لم يحضر لاستلامها، لكنني ازددت قناعة بالشيخ، وبطريقته البديعة في العلم، وفي التعليق على ما يلزم.
قررت أن أطلب العلم عند الشيخ، لمّا أعجبتني طريقته، وعلمه الغزير كما ذكرت.
تحدثت مع صاحب لي تشرف بالقراءة على الشيخ، فشجعني على ذلك، واختصر لي خطوات كثيرة في كيفية القراءة على الشيخ: مثل: موقع البيت؟ وأي الأيام يجلس للتعليم؟ وهل الشيخ يستقبل الطلاب أم لا؟ وما الوقت المناسب للذهاب إلى الشيخ؟
شجعني هذا الزميل كثيرا، وشد من أزري.
ذهبت إلى الشيخ بعد صلاة العصر مباشرة في أحد الأيام التالية، وكان جالسًا في مختصر البيت مع ثلة من الطلبة، والزائرين، وبعض أولاده الكبار، وهو ليس مختصرًا حسب المتعارف عليه، وإنما الأقرب أن يسمى مدخلًا في أول البيت، وهو واسع قرابة أربعة أمتار في مثلها، ومنه تذهب إما إلى المجلس على يسارك أو المكتبة الكبيرة العامرة على يمينك، وهناك ممر على يفضي إلى داخل البيت.
دخلت البيت والذي يعتبر بيتًا كغيره من البيوت، فهو ليس كالقصر وإن كان كبيرًا نوعا ما، ومايميزه هي الساحة الفسيحة في أوله، وبجوار بيته تقع بيوت أولاده علي اليمين والشمال (أي مجمعًا له ولأولاده)، وأمام البيت يقع مسجده.
(يتبع)
(2)
دلفت من الساحة المبلطة إلى الباب الداخلي المفضي إلى المدخل المذكور، وجلست مع من مجلس، وكان مَن حول الشيخ يتحدثون، ويسألون الشيخ، والشيخ يتحدث في أحاديث مفتوحة مقتضبة، فهو مجلس مفتوح، وليس مجلسًا للعلم ، فلما وجدت فراغًا تقدمت إلى الشيخ، وسلمت عليه، وقبلت رأسه، وعرفته بنفسي وقلت: ياشيخ أريد أن أطلب العلم على يديك، فسألني عن اسمي، فذكرته له الاسم.
فقال: من أي البلاد أنت؟
قلت: من الخرج، (وسبق للشيخ أن كان قاضيًا في الخرج) .
فقال: هل عندكم عائلة اسمها الشبرين؟
فقلت: نعم ياشيخ (وكان زوج خالتي التي توفيت رحمها الله بالحرق من عائلة الشبرين جعلها الله شهيدة).
قام بعدها الشيخ بحركة غريبة أقرب للطرفة، حيث شبر علي فخذه وقال: “شبر..” ثم شبر ثانية وقال: “شبرين..”، فتبسمت، وتبسم من حولي، ثم تجاهلني الشيخ ولم يعرني أي اهتمام، وكأنني لم أسأله، بل كأنني غير موجود، عندها مكثت برهة من الزمن، ثم خرجت، وفي مخيلتي أن الشيخ ربما يكون مشغولًا هذه الأيام، أو ما بعدها، فلم ير أن أقرأ عليه، أو أن الطلبة عنده كثر، فلم يرحب بطلبة جدد.
الحقيقة أنني خرجت، وليس في نفسي انكسار، أو إحباط من رد الشيخ، هكذا فسرتها.
بقيت ردحًا من الزمن أشهرًا عديدة تقارب السنة أقل أو أكثر، قابلت بعدها صاحبي مرة أخرى، وبادرني بالسؤال عن القراءة على الشيخ؟ فأخبرته بخبري وماقاله الشيخ لي، والحركة التي عملها، فكرّ صاحبي ضاحكا، وكأنه يعرف تلك الحركة وذلك الموقف من قبل، وقال لي: ألم تعرف قصد الشيخ؟
قلت: لا.
قال: الشيخ أحيانًا يفعل حركات ليقيس ردت فعل الطالب، وهل هو يريد طلب العلم فعلًا؟ أو مجرد حماس وقتي؟ فبعض الطلاب يأتي متحمسًا لطلب العلم، ثم ينطفيء بعد أيام، وينقطع عن الشيخ، والعديد من العلماء يفعلون ذلك، ويختبرون من أمامهم ليتأكدوا من جديته، وحرصه على الطلب.
قلت: ياليتك أخبرتني في حينه بقصد الشيخ ومراده.
ألحّ علي صاحبي في التوجه إلى الشيخ، وطلب القراءة عليه مجددًا، وطلب مني أن أثني على الشيخ أولًا بما هو أهل له، ثم أتقدم بطلبي (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ).
توجهت صباحًا إلى بيت الشيخ، ودخلت (المدخل) الذي به كرسي الشيخ، وهو عبارة عن (كنبة) كبيرة نوعًا ما، بجانبها طاولة صغيرة، وفوق الطاولة الهاتف المخصص للفتاوى، وأمام الكنبة فرشة (زولية) موزع على أطرافها الكراسي، وجلست أنتظر الشيخ، وفي فترة الانتظار تعرفت على الزميل علي (من دولة عربية)، وهو الآخر من الملازمين للشيخ، وأخبرته بمرادي، فزادني تعليمات أكثر، وقال لي: “ماذا ستقرأ على الشيخ؟”
فقلت: “المقترح زاد المستقنع”.
فقال: “هذا الكتاب قُرأ على الشيخ كثيرًا، وقد لا يتفاعل معك، اطلب منه أن تقرأ عليه كتاب (الوجيز في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل)، لابن أبي السري (ت732)، وسيفرح الشيخ بذلك كثيرًا كون الكتاب لم يسبق أن قُرأ على الشيخ”، وقال لي: “اذكر للشيخ أنك تريد القراءة بطريقة الإمرار (وهي أن تقرأ والشيخ يعلق عند الحاجة أو السؤال)”.
عندما حضر الشيخ قمت ومن معي للسلام عليه، وتقبيل رأسه، وبعدما جلس علي كرسيه، وأدار المضيف القهوة على الشيخ وعلى الموجودين عرفته بنفسي، وأثنيت عليه بما هو أهل له، وأبلغته مرادي، وقدمت له كتابي (أحكام الحرم المكي الشرعية)، ليكون شافعا لي في الطلب، وكناية عن جديتي في طلب القراءة، وذكرت له مسمى الكتاب الذي أرغب قراءته عليه، فاستحسن الشيخ ذلك مني، وبدت ابتسامة جميلة علي محياه الذي يعلوه الوقار والهدوء ونور العلم.
سألني الشيخ سؤالا يتعلق بأحكام الحرم المكي، بعدما قلب الكتاب (ودائما يسأل من يأتيه ويسلم عليه أسئلة فقهية أو ألغازا فقهية) وسؤاله: لماذا حدود الحرم من جميع جهاته متفاوتة وليست على بعد واحد؟
انظر إلى دقة السؤال، والتي تنبيك عن ذكاء الشيخ وطول باعه في العلم، فذكرت له أقوال العلماء في ذلك من مثل: أن نور الحجر الأسود عندما أنزل من الجنة وصل إلى هذه الحدود، أو أن الملائكة حرست آدم في هذه الحدود، أو أن ضوء الخيمة التي أنزلها الله مكان البيت وصل إلى هذه الحدود، وأخبرته أنها كلها أحاديث ضعيفة، أو إسرائيليات، وأن اختلاف حدود الحرم لا يعلمها إلا الله، فاستحسن الشيخ الجواب، وسألني: “متى ستقرأ؟” فقلت له: “من الغد صباحا ياشيخ إن شئت”، فقال: “علي بركة الله”.
صاحبنا علي الذي اقترح الكتاب، هو الآخر فرح بموافقة الشيخ على قراءة الكتاب، لأنه سيفوز بالاستماع لقراءة الكتاب، وهو كتاب ضخم قرابة (595) صفحة دون الفهارس.
تجهزت للقراءة من الغد، ومن حسن الحظ أنني أستقبل الإجازة الصيفية، وهذا يعني الاستمرار طول الإجازة في القراءة على الشيخ، مما يعني قطع شوط كبير في طلب العلم عليه دون انقطاع.
راجعت المقطع المتوقع قراءته علي الشيخ عدة مرات قبل الذهاب إليه، وانطلقت إلى بيت الشيخ، فوصلت الساعة التاسعة والنصف، والباب لازال مغلقًا، انتظرت حتى فتح الباب، فدخلت، وقد سبقت غيري، ومن سبق تكون له الأولوية بالقراءة على الشيخ، هذا هو العرف عند الشيخ.
مكثت دقائق معدودة، فأتى إلينا الشيخ، وقمنا بالسلام عليه، ثم جلسنا على الأرض تحت قدمي الشيخ احترامًا وتقديرًا له، بانتظار إشارة الشيخ ببدء القراءة، وبالطبع هو لايعرف من أتى أولا؟ وبعد أن شرب الشيخ فنجانًا من القهوة، ولم أشرب، فبيني وبين القهوة نفور منذ عقود، إشار الشيخ بالبدء في القراءة، وإشارة الشيخ هو قوله: “نعم!”، وتعني ابدأ بالقراءة.
(يتبع)
(3)
بدأت بالقراءة في أول الكتاب، والشيخ يعلق عند الحاجة تعليقًا مقتضبًا، واستمريت قرابة ثلث ساعة، قرأت فيها ربما عشر صفحات، عندها قال الشيخ: “حسبك”، فختمت القراءة بالصلاة على النبي صل الله عليه وسلم، وقمت من المجلس خارجًا، وأتى من بعدي ليقرأ على الشيخ، وكنا نعد على الأصابع أربعة أو خمسة ومعنا الزميل الأخ علي.
هذا الوصف السابق ينطبق على جميع الأيام اللاحقة في القراءة على الشيخ.
الشيخ وكغيره من المشايخ لا يقبل اللحن في القراءة، وقد أبلغني زميلي علي بذلك، فكنت أكرر مراجعة القراءة قبل الدخول على الشيخ لإتقان ما سأقرؤه، والذي يصل أحيانًا إلى ثمان مرات أي مراجعة المقطع ثمان مرات، حسبتها يومًا من الأيام كالتالي: مرتان بعد الفجر، ومرتان في البيت قبل التوجه إلي الشيخ، ومرتان وأنا في السيارة عند باب بيت الشيخ أنتظر فتح الباب، ومرتان قبل مجيء الشيخ وأنا في الداخل، ومعدل ما أقرأ على الشيخ عشر صفحات تقريبا، قد تزيد إلى خمس عشرة صفحة، وقد تقل إلى ثمان، أما معدل مراجعات المقطع قبل القراءة على الشيخ فالغالب أن أقرأه أربع أوخمس مرات، مع محاولة فهم العبارة قدر المستطاع.
اليوم الثاني أو الثالث وأثناء القراءة أخرج الشيخ من جيبه قصاصة من ورق وسألني عن اسمي الثلاثي، ثم دونه في الورقة، وقد سألت زميلي علي لاحقًا وهو الخبير بأمر الشيخ، فقال: هكذا الشيخ يدون أسماء الطلبة الذين يقرأون على يديه.
من النادر أن يتغيب الشيخ، لكنه أحيانًا يتغيب إن كانت لديه مراجعة في دائرة حكومية، أو كان له موعد عند الطبيب، لكنني لاحظت أنه لا يحضر أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، وكان الخادم إذا أتيت يقول هو مسافر، وسألت الأخ علي عن ذلك فقال: “نعم.. الشيخ يسافر إلى مكة هذه الأيام الثلاثة ليصوم أيام البيض هناك، ثم يعود”، فقلت في نفسي: ماشاء الله هنيئا له ذلك، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
كنت إذا وجدت متسعًا من الوقت راجعت بعض المسائل المعروفة، ودونت أقوال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فيها، لاسيما المسائل الخلافية، وارجع في ذلك إلى كتاب (السلسبيل في معرفة الدليل للبليهي) فهو زاخر بذكر أقوال ابن تيمية وابن القيم، ثم أذكرها للشيخ طمعًا في تعليقه، فكان يفرح ويعلق على المسألة ويزيد فيها، وربما أورد قول الإمام ابن باز، وكذلك قول ابن عثيمين رحمهما الله فيها، بالرغم من أن ابن عثيمين يعد من أقرانه، بل أصغر منه سنًا، ولكن الشيخ كما ذكرت متواضع، وتهمه الفائدة أيا كان قائلها، كما أنه وإن أتقن الفقه الحنبلي إلا أنه لايتقيد بالمذهب في ترجيحاته، فهو يسير علي مدرسة شيخه السعدي في اتباع الدليل.
قسم العبادات من الكتاب واضح وسهل، وقد مر كثيرا على أغلب طلبة العلم، لكن القسم الآخر وهو المعاملات، هو المحك في الطلب، لاسيما أن أصحاب كتب الفقه يتفنون في إبهام العبارة فتقرأ أحيانَا شبه الطلاسم لاتدري أي الضمائر تعود على أقرب مذكور أو قبله بعدة جمل، وكلما صغر المتن كانت العبارات أكثر صعوبة وتعقيدًا، وكنت أنظر إلى الشيخ، وأجده يفهم تلك العبارات كما يفهم أحدنا سورة الفاتحة، لاسيما بعض أبواب البيوع، والمواريث والطلاق، فسبحان من حباه معرفة علم الفقه، ودقائقه، وهو قد بلغ عشر التسعين من العمر، ونحن أبناء الأربعين نقف عاجزين عن فهم تلك العبارات.
يوما من الأيام أتيت كالعادة مبكرًا، فلما فُتح الباب دخلت، وانتظرت الشيخ، وقبل مجيئه أبلغني الأخ علي أن طلبة علم من دولة الكويت أتو بالأمس إلى الشيخ، وسيقرؤن عليه زاد المستقنع في يومين، وذلك في عدة مجالس، وأبلغني ألا أقرأ اليوم، وأنني لو قرأت ربما أغضب الشيخ، وفعلا حضر مجموعة من طلبة العلم من الكويت، وأخذوا أماكانهم في المجلس.
أنا الآن أصبح عندي علم بالشيخ وطريقته وما يرغب ومالا يرغب، فلم أوافق أخي علي على مقترحه، وقلت: “سأقرأ مادمت حضرت أولَا، وإن أراد الشيخ إسكاتي فله ذلك، والضيوف على العين والرأس، لكن (منى مناخ من سبق)، وأنا سأسير على الجادة مثل ماكنت عليه، حتى يأتي من الشيخ ما ينقضه”.
حضر الشيخ، وقرأت عليه المقطع اليومي المتفق كالمعتاد، ولم ينكر علي الشيخ أي شيء، وبعد انتهائي، قال لي الشيخ بأدب: “إن شئت أن تترك المجال غدا للضيوف لاستكمال قراءة كتاب زاد المستقنع، حيث أنهم على جناح سفر”، فقلت: “نعم ياشيخ”، وتركت لهم المجال في اليوم التالي، وبالمناسبة هذه طريقتهم، يأتون ليقرأوا على الشيخ كتابًا فقهيًا مختصرًا، خلال يومين في عدة جلسات، تصل من ست جلسات إلى ثمان تقريبًا: بعد الفجر، والضحى، والعصر، والمغرب، وبعد العشاء، واليوم الثاني كذلك، فيختمون الكتاب في يومين، ثم يغادرون راجعين إلى بلدهم.
أحيانًا يأتي الشيخ إلى المجلس، وهو طيب النفس منشرح الخاطر، فيطرح علينا مسائل وألغازًا بين ثنايا القراءة، من ذلك أنه قال لنا بيت شعر تعجيزي في المساجلة، وهو:
مررت بعطار يبيع قرنفلًا
ومسكًا وريحانًا فقلت له: (صوت شمّ بالأنف).
فقال لي العطار ياهذا رد لي
مسكي وريحاني فقلت له: (صوت زفير من الأنف)
وهذا البيت على سبيل الطرفة لمن تساجل مع شخص شعرًا، وأراد أن يفحمه.
(يتبع)
(4)
يوما من الأيام أتيت كالمعتاد إلى بيت الشيخ، ودخلت، فأتى مجموعة من الطلاب صغار السن مع معلهم، وهم طلاب حلقة تحفيظ للقرآن، وقد جاءوا بعد تنسيق مسبق من معلمهم مع الشيخ، فلما حضر الشيخ أمر بفتح المجلس لهم، وطلب منا أن نحضر، فدخلنا المجلس جميعًا، وهو مجلس واسع فسيح، وقال لمدرسهم: “هل عندك ما تقرؤه؟”، فقال: “نعم”، وأخرج كتيبًا صغيرًا من جيبه فيه متن قصيدة الألبيري في آداب الطلب، وبدأ يقرأ بتلحين جميل، والشيخ معجب من جودة قراءته، وإعرابه، وعدم لحنه، ثم علق الشيخ بتعليق مقتضب جميل كالعادة، حث فيه الصغار على التفقه،7 وطلب العلم.
الطريقة الغالبة عند الشيخ هو التعلم الفردي مع الشيخ، وهو أن يقرأ الطالب على الشيخ، ثم يأتي من بعده، ويفعل الطريقة نفسها، والقراءة الغالبة قراءة إمرار مع تعليق من الشيخ عند الحاجة كما ذكرت، أو إذا سأله الطالب، وربما خالف الشيخ ذلك قليلًا، فمرة من المرات كان في الحضور ولد صغير في السن، أخمن أنه في المرحلة المتوسطة، ويظهر أن أباه نسق مع الشيخ بحيث يشرح له الأصول الثلاثة، فكان الشيخ يذكرها، ويشرحها للولد الصغير شرحًا سهلًا ميسّرًا، مع حرص من الشيخ أن يفهّمها إياه، وهو أمر عجيب لتفاوت السن بينهما، والذي يصل إلى خمسة وثمانين عاما تقريبًا.
يعد الشيخ رحمه الله مدرسة في التدريس، فعلم الشيخ، ومنهجيته في التدريس، وجده وحرصه في الدرس حري بأن ينشر ويعلم للأجيال.
الشيخ ابن عقيل لا يدرس فقط، بل له توجيهات تربوية منهجية عجيبة للطلاب، يذكرني بالشيخ ابن عثيمين رحمه الله، مثلا تجده ينتقد الطالب الذي ليس معه قلم يدون به الفوائد، ويصحح به العبارات في الدرس، كما تجده ينتقد تكرار السؤال، ويرى أنه لايليق بطالب العلم أن يكرر السؤال، بل ولا يرى إعادة الجواب، بل يكفيه جواب واحد، وعليه بفطنته أن يفهم الجواب، وغيرها كثير.
والشيخ رغم سنه الكبير له فراسة عجيبة فيمن يقرأ عليه من الطلاب، فيعلم من خلال التعلم علي يديه الطالب المبتديء من الطالب المتقدم، والطالب الجاد العميق الحريص من الطالب الكسول، وذلك من تفحصه في أحوال الطالب ونظرات، ومتابعته للشيخ، وتدوينه للفوائد، وقراءته على الشيخ والتحضير لها، ووقفاته علي الجمل، وحسن إيراد العبارات، وإنصاته للشيخ إذا تحدث، وغيرها كثير، بل وحتى حال الطالب في الدرس إذا اعتراه شيء طاريء كتعب أو مرض أو إرهاق، وأذكر أنني مرة كنت أقرأ عليه، فأصبت بمقدمة إعياء لا أدري ما سببها؟ هل هي بداية زكام؟ أو حرارة داخلية؟ وبالطبع لا يليق بي التوقف وأنا أمام الشيخ، لكن ما إن لاحظ الشيخ تغير نبرة صوتي، والفتور الذي اعتراني فُجأة حتى أمرني بالتوقف، وختم القراءة، رحمه الله، وأحيانا كنت اقرأ وأشعر بخفة وحماس واسترسال، فيسمح الشيخ لي بالاستمرار، والزيادة على القدر اليومي في القراءة، فأنت في الحقيقة أمام عالم منحه الله صفات نفسية وتربوية متميزة، وظفها في إيصال رسالة العلم لطلابه خير توظيف، وبنى بها نفوسهم ليستقيموا في طريق العلم.
كان يحضر الكثير من الناس للسلام على الشيخ، ممن أعرفهم ولا أعرفهم، وهم في المساء أكثر، وأذكر ممن رأيت يزور الشيخ صباحًا الشيخ صالح العصيمي، وغيرهم كثير، والشيخ له احتفاء بالزائر، ويفرح بذلك ويجله، ويبادره بالترحيب والاهتمام به، حتى يشعره بأن له مكانة خاصة في قلبه تختلف عن غيره، لذا تجد أن العلماء عامة وطلبة العلم خاصة يدلون للشيخ بعلاقة مميزة، بسبب ترحيبه بهم، والسؤال عنهم إذا زاروه، ويدعوهم إلى لقائه الأسبوعي في بيته يوم الاربعاء، فالشيخ كريم المعشر والنفس واليد، ولذا من حوله من طلاب العلم كثر، كما أنه يعرف طلابه ولاينساهم، فبادلوه ذلك الحب والتقدير، وذلك التواصل.
الشيخ من خلال تتبعي له أثناء القراءة يميل إلى الموسوعية فهو بحق علّامة، فليس علمه مقتصرًا على الفقه فقط، فله اهتمامات بالتاريخ، وكتب العقيدة كانت تقرأ عليه، وله اهتمام واضح باللغة العربية، ومن نكاته العلمية التي يطربنا بها بين فينة وفينة بيتا الشعر المشهوران في كيفية البحث في القاموس المحيط وهما:
(إذا رمت للقاموس كشفًا للفظة
فآخرها للباب والبدء للفصل
ولا تعتبر في بدئها وأخيرها
مزيدًا ولكن اعتبارك بالأصل)
وله كتاب في الحكم والنوادر والألغاز يسمى كشكول ابن عقيل.
وعلم الحديث سبق وذكرت أنني حضرت له قراءة كتاب ثلاثيات الإمام أحم بن حنبل، وله جزء في (الأربعون في فضل المساجد وعمارتها) يعد من أشهر كتبه، وإن لم أره يناقش علل الأحاديث في دروسه، أو يتكلم عن متونها أو رجالها، والشيخ يقدر المعلومة ويطرب لها أيًا كانت، وأذكر أنني ذكرت له معلومة فأثنى خيرا في المجلس على الملأ، وتجده يحرص على اقتناء الكتب، وما تقذف به المكتبات من جديدة، لاسيما في علم الفقه، فليس هو بذلك العالم الذي توقف عن الطلب منذ سنوات، وأصبح العلم عنده جامدًا.
أما علم الفقه وبخاصة الفقه الحنبلي فله قصب السبق فيه، وفي فهمه ومعرفة عباراته، ودلالاتها، فهو فيه النجم اللامع، قال الشافعي رحمه الله: “إذا ذكر الحديث فمالك النجم”، وأنا أقول: “إذا ذكر المذهب الحنبلي فابن عقيل فيه النجم” ، وله بز على غيره، وقول من قال: “هو أعلم أهل الأرض في زمانه بالفقه الحنبلي” ليس مجازفة، بل حقيقة واقعية، لمستها في درسه.
(يتبع)
(5)
كنت أقرأ عليه وأجد أمرًا عجيبًا من قوة معرفته بالمذهب، وملاحظاته على كتاب الوجيز، وتصحيح بعض الألفاظ والعبارات، دون وجود مخطوطة بين يديه، وأذكر أنه قال: هذا اللفظ خطأ والصواب كذا، وكان المحقق أثبت لفظًا من عنده، ولما رجعت لمتون الفقه وجدت كلامه صحيحًا، وكثيرًا مايقارن بين الزاد والوجيز في العبارات، بل ويبين ضعف ترجيحات الوجيز أحيانًا إذا كانت خلاف المذهب، أو خلاف المشهور من المذهب، مثلا: ذكر صاحب الوحيز أركان الحج والعمرة وأسقط ركن السعي منهما، فتجد الشيخ يشير إلى ذلك، بل وأحيانا يقول: احذف هذه اللفظة لأنها غير مناسبة، فأرجع لبعض المتون لأجد أنها لم تذكر فيها، وكم مرة كنت أقرأ العبارة فيقول الشيخ: هذه اللفظة زائدة؟ ولذا اجتمع عندي في حواشي الكتاب تعليقات نفيسة نقلتها عنه، لو كنت أقرأ الكتاب علي غيره لن يجتمع ولو ربعها، بل أحيانًا يصحح تشكيل الكلمة في المتن، أي يستدرك على تشكيل المحقق للكلمة، وهل تعرف من المحقق؟ إنه ليس واحدًا بل هي لجنة علمية متخصصة برئاسة إمام الحرم الشيخ عبدالرحمن السديس، وكل هذا ينبيك عن تبحره في المذهب، وفهمه لدقائق عباراته.
أما اهتمامه بالدرس، وبما يقرأ عليه فيه، واحترامه للعلم عامة، فأمر عجيب لم أجده عند شيخ غيره، فتلمس حرصه على الدرس وما فيه من فائدة، بل واحترامه لجلسة العلم، ولمن أمامه.
خذها مني قوية مدوية: هل تعلم أنني أقرأ علي الشيخ من الكتاب ومعه نسخة أخرى يتابعني فيها، بالله أي حرص؟ وأي جد؟ وأي اهتمام يبديه الشيخ للعلم؟ وللطالب أمامه؟ كان يكفيه أن يُقرأ عليه وهو يستمع، لكن أن يتابع القاريء من كتاب معه، ويحمل القلم، ويدون في الهوامش إنه لأمر عجيب من شيخ في عشر التسعين من العمر، ولذا فإنني قبل أن أقرأ عليه أحرر العبارة، وأفهمها لعلمي أن الشيخ يتابعها، فليست القراءة قراءة تبرك، أو قراءة شكلية، أو سبهللة، وهذا والله يفرحني كثيرًا لعلمي أنني أمام شيخ يجلي العبارة، ويضعها في مكانها الصحيح نطقًا وفهمًا وشكلًا، وأنني في مجلس علم حقيقي لا شكلي، وأنني أقرأ عبارة الكتاب بتحقيق الشيخ لا المحقق.
بل وخذ هذه الأخرى مدوية: هل تعلم أنني طيلة قراءتي علي الشيخ مدة سنة أو أكثر لم أره ولو مرة واحدة نائمًا؟ أو يصارع النوم؟ أو يغالبه؟ وهو الشيخ في عشر التسعين، ومثله لو نام لكان أمرًا مالوفًا لغلبة السن لمن كانوا في هذا العمر، ولكن يشهد الله أنني كنت أراه دائمًا متيقظًا مركزًا، فأي جد؟ وأي اهتمام؟ وأي حرص؟ وأي تحمل للعلم؟ يرسمه ذلك الشيخ لنا؟
لقد كانت هذه الرسائل من الشيخ تهز وجداني وتجعلني انظر إلى عالم أعطى العلم حقه، واحترم طلبته أمامه، وقدر ما يقرأ عليه.
الشيخ قليل الكلام في أمور خارج الدرس، ولا يعلق في الدرس إلا ما يتعلق به، وإذا جاءت مناسبة للحديث مثلا عن شيخه ابن سعدي تكلم، مثل لما قرأنا في الاعتكاف قال: الشيخ ابن سعدي لم يؤثر عنه اعتكاف، لكنه من النادر أن يتكلم عنه، لعدم مناسبة الكلام، أضف إلى طبيعة علمائنا في التحفظ عند ذكر شيوخهم.
تحصل انقطاعات أثناء القراءة على الشيخ بسبب الوعكات التي يتعرض لها، والعمر له أحكام، وتختلف في مددها، فتصل أحيانا إلى أسبوعين، وربما إلى شهر، وربما أكثر.
لقد صبر على تبليغ العلم، ومن في عمره كان يكفيه أن يتفرغ للعبادة.
عقود عديدة وهو يبلغ العلم، وياليته كان مجلسًا واحدًا في الشهر أو في الأسبوع أو في اليوم، بل تصل إلى ثمانية مجالس في اليوم الواحد، ومع مختلف الطلاب والأعمار، مع فتاوى ومقابلات للعلماء وطلبة العلم ولجان واجتماعات.
جسم نحيل وشيخوخة يؤثر فيها أدني جهد وتفكير.
إنها مصابرة واحتساب.
مرة وأنا داخل إلى بيته، وبينما كنت أمشي في ساحة البيت متجهًا إلى المدخل كالعادة، خرج الشيخ محمرّ الوجه، وهو يبحث عن السائق علي عجل لينقله إلى الطبيب، في منظر يبعث على الرحمة، فقد حلت به وعكة مفاجئة، جعلها الله تكفيرا له.
قال الشاعر:
(قالوا أنينك طول الليل يسهرنا
فما الذي تشتكي قلت: الثمانين) .
فكيف بمن جاوز التسعين بل انتصف في عشرها؟ وهو مع ذلك لازال مرابطًا في حلق العلم يبذله للصغير والكبير، ممسكًا بقلمه يعلق ويدون ويصحح، وهذا يذكرني بأبيات أسامة بن منقذ وهو يشكو من سن الثمانين:
مَعَ الثَّمَانِيْنَ عَاثَ الضَّعْفُ فِي جَسَدِي …
وَسَاءنِي ضَعْفُ رِجْلِي وَاضْطِرَابُ يَدِي
إِذَا كَتَبتُ فَخطِّي خطُّ مضطربٍ …
كخطِّ مُرْتَعِشِ الكفَّيْنِ مُرْتَعِدِ
فَاعجَبْ لضَعْفِ يَدِي عَنْ حَمْلهَا قَلَماً …
مِنْ بَعْدِ حَطْمِ القنَا فِي لبَّةِ الأَسَدِ
فَقُلْ لِمَنْ يَتَمَنَّى طولَ مُدَّتِه: …
هَذِي عَواقِبُ طولِ العمر والمدد
يشكو من ضعفه في الثمانين، وشيخنا قد جاوز التسعين رحمه الله.
كنت قد قطعت شوطًا كبيرا في القراءة علي الشيخ، فلم يبق إلا صفحات معدودة قرابة عشرين صفحة فقط، وأتم قراءة الكتاب، وبالتحديد وصلت إلى صفحة (575) من (595)، لكن لازلت متوقفًا بسبب وعكة تعرض لها الشيخ، وطال الانتظار.
(يتبع)
(6)
تواصلت مع زميلي علي، وهو الآخر كان حريصًا على إتمام الكتاب، ليأتينا الخبر الصاعق الذي لا مفر منه لكل حي: لقد مات الشيخ! (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
توفي يوم الثلاثاء الموافق 8 شوال من عام 1432هـ، وصليت عليه عصر الأربعاء الموافق 9 شوال 1432هـ، في مسجد الملك خالد بأم الحمام في الرياض، تحركت بسيارتي قبل أذان العصر بثلث ساعة تقريبًا، لقناعتي بأن المسجد سيغص بالمصلين عن بكرة أبيهم، ولخوفي من الصلاة خارج المسجد في الشمس، وأيضًا حتى لا اضطر إلى إيقاف السيارة مسافة طويلة عن المسجد، نظرًا لكثرة السيارات، فيذهب الوقت علي في قطع المسافة الطويلة للوصول إلى المسجد، ولي تجربة سابقة عندما مات أحد العلماء، فلم أجد موقفًا إلا على بعد كيلو مترات تقريبًا، مما فوتني الصلاة عليه.
وصلت بعد أذان العصر بقليل، وشققت طريقي بين أرتال السيارات، وما إن أقبلت على المسجد حتى رأيت كثرة الناس.
دخلت من مؤخرة المسجد، وقد امتلأ ثلاثة أرباعه بالمصلين، والحمد لله المكيفات كانت باردة، وبعدما صليت تحية المسجد، وما إن سلمت حتى غص المسجد بالمصلين فامتلأ كله ولم يعد به موطأ قدم، وصلى الناس في الخارج.
لم تتأخر إقامة الصلاة بحمد الله حتى يتسع الوقت لدفن الشيخ رحمه الله، والناس عن يمينك وشمالك شبابًا وشيبًا كهولًا وصغارًا علماء وطلبة علم مثقفين وعوامًا، بل حتى مصلى النساء امتلأ بالنساء، جميعهم أتوا للصلاة على الشيخ.
رحمك الله يا ابن عقيل وصدق الإمام أحمد رحمه الله عندما قال: “قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز” ، ولقد علمت أن أحد من يوصم بأفكاره السيئة، عندما مات قبل فترة لم يشهد جنازته سوى عشرين شخصًا فقط.
بعد الانتهاء من صلاة العصر، أمَّ المصلين سماحة مفتي البلاد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ بصلاة الميت على الشيخ عبدالله بن عقيل، ومعه بعض الجنائز، حيث صلى الناس بخشوع يتضرعون ويدعون لذلك العلامة ومن معه بقلوب نحسبها مخلصة متوجهة إلى بارئها، رحم الله الشيخ ورفع درجته في عليين.
بعد الانتهاء من الصلاة اتجهت إلى المقبرة على قدمي، وهي قريبة من المسجد، وتقع إلى الجهة الجنوبية الغربية منه، ويفصلها عن المسجد شارع أم الحمام الرئيس، والمقبرة تقع إلى الغرب من المنطقة الصناعية بأم الحمام، وبعدها عن المسجد أي المقبرة قرابة (300- 400) متر تقريبًا، وجموع الناس يذهبون على أرجلهم إلى المقبرة، وقد أغلقوا بكثرتهم طريق أم الحمام الذاهب والآتي، ووجدت الناس قد سبقوني إلى المقبرة.
دخلت المقبرة، ووجدت جموعًا كبيرة وغفيرة في الجهة الشرقية من المقبرة نظرًا لامتلاء الجهة الغربية بالقبور، ولم يتبق من المقبرة سوى مساحة لا بأس بها في الجهة الشرقية، ووجدت أن الشيخ يدفن في أقصى الجنوب بالقرب من سور المقبرة، والشمس حارة والعرق يتصبب من الحضور، والجموع كبيرة جدًا، بحيث تقف على بعد مائة متر أو أكثر من القبر، والناس متسمرون يحتسبون شهود الجنازة، وقد تأخر دفن الشيخ كثيرًا بسبب أن أبناءه جزاهم الله خيرًا تركوا فرصة للناس لحثي التراب على قبره بأيديهم، حتى قال ابنه الشيخ عبدالرحمن وأنا أسمعه: “نحن نستطيع دفنه في خمس دقائق، لكن لا نريد أن نحرمكم أجر الدفن”.
وجدتني بعد فترة ليست بالقصيرة – وقد تسبحت بالعرق – أدخل أكثر في الزحام حتى وصلت إلى القبر، ورأيت القبر قد امتلأ ثلثاه بالتراب، والناس يحثون بأيديهم اتباعا للسنة، فسميت الله وحثيت معهم..
يالله هنا جثمان ابن عقيل رحمه الله الذي طالما درس وعلم وبذل من وقته وعقله، وحتى من جسده النحيل، بل من صحته الكثير الكثير، لتعليم الناس الدين، دون كلل أو ملل طيلة عقود، احتسابًا للأجر من الله عز وجل، والناس كل مشغول في دنياه، جعل الله قبرك روضة من رياض الجنان يا شيخ الحنابلة، وبلغك منازل الأبرار والصالحين.
رجعت مرة أخرى تاركًا المجال لغيري، وكنت أسمع بينة آونة وأخرى من ينهى عن التصوير، وقد سمعت من بعضهم أن أبناء الشيخ لا يرضون بالتصوير، حيث أن بعض من في المقبرة يصور بالجوال.
رجعت إلى مكاني ومكثت قرابة نصف ساعة، ثم إنهم في آخر المطاف جدوا في الدفن، وبدأوا يستخدمون المعاول والمساحي، حتى أتموا دفن الشيخ رحمه الله، والناس مابين ذاكر وصامت حزين، ومن قائل: “اسألوا الله له الثبات فإنه الآن يسأل” ، ومن قائل: “لا تنسوا الدعاء له”، ومن مترحم عليه.
(يتبع)
(7)
لما انتهوا من الدفن، رأيت رجلًا في الخمسين من عمره تقريبًا، عرفت أنه الشيخ عبدالرحمن أحد أبناء الشيخ، فقد كنت أراه بين فينة وأخرى يمر على والده صباحًا، وهو الذي يشرف على دفن الشيخ في المقبرة، بعد الانتهاء أخذ يتحدث بعيدًا عن القبر، فقربت منه ووجدته يشكر من حضر ويقول: “إن أبي في حياته يكن لكم صادق الحب والود والإخاء، ويفرح بزواره وطلبته، فجزاكم الله خيرًا على شهود الجنازة، وتجشمكم عناء ومشقة حضورها ودفنها” ، وقال: “إن أبي عندما سقط قبل أشهر – أظنه سقط في الحمام أثناء وضوئه للصلاة فأغمي عليه، وهذا الظن مني كما سمعت من أكثر من مصدر والله أعلم – بقي كأنه نائم في المستشفى، لم يتغير منه شئ، ولم يتعبنا في متابعته ومراعاة حاله”، وقال:” استدعينا أمس الثلاثاء عصرًا، وأبلغنا الطبيب أنه يُحتضر، وكنا نرى الأجهزة والعدادات تنزل وتهبط، وهو في وضع النائم لم يتحرك، بل وصلت عدادات الأجهزة إلى الصفر، وقيل لنا: إنه مات، ولم نلحظ عليه سكرات الموت، أو حشرجة خروج الروح أو تحرك الأعضاء عند الموت واضطرابها، فخرجت روحه بحمد الله خروجا سهلًا سلسًا، ولم نعلم أنه مات إلا بعد قول الطبيب: إن قلبه توقف، فالحمد لله على فضله ورحمته، وهذه من علامات حسن الختام إن شاء الله”، ثم قال:” إن الشيخ يوسف العطير – وهو من المحتسبين في تغسيل الموتى منذ ثلاثين سنة كما أنه من كبار تجار البلد – غسله ظهر اليوم الأربعاء وأنه لاحظ طراوة جسمه حيث لم يتيبس أو يتخشب جثمانه، أو يتغير منه شئ، كأنه نائم، بل تعلوه ابتسامة وإشراقة ووضاءة عجيبة، وهذه بحمد الله علامات خير للميت، ثم قال ابنه: “إن أبي كان يفرح بمجيئكم وزيارتكم، ونحن بحمد الله باقون على طريقته وماضون على العهد، فالبيت مفتوح يوم الأربعاء ليلة الخميس للزوار، كعادة الشيخ وهو حي، فحياكم الله ولا تنسوه من دعائكم”، انتهى كلامه.
دلفت راجعًا إلى سيارتي، ولم يبق على أذان المغرب سوى نصف ساعة.
رحمك الله يا ابن عقيل وأجزل لك المثوبة، جزاء ما قدمت للإسلام والمسلمين، وأفسح لك في قبرك ونسأ لك في أثرك، والعالم لا يعوض عند موته، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) قال: “خرابها بموت فقهائها وعلمائها، وأهل الخير منها”. وكذا قال مجاهد أيضا: “هو موت العلماء”.
قال أحمد بن غزال:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها * متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها * وإن أبى عاد في أكنافها التلف
وفي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
رحمك الله يا شيخ الحنابلة، وأمطر على قبرك من شآبيب الرحمة، وجعلك في عليين، وإنا على فراقك يا عبدالله لمحزونون.
يأتي السؤال الأخير: ما خلاصة هذه التجربة في طلب العلم؟
سأسوق هنا خلاصة هذه التجربة لكي يستفيد منها من يرغب الولوج إليه.
وسأختصرها في نقاط:
أولا: قال مجاهد رحمه الله: “لا يتعلم مستحي ولا مستكبر”، فلابد أن تكون جريئا وتقتحم هذا الباب بجرأة.
ثانيا: لا بد من توفر الأسباب المعينة على طلب العلم، كقرب مكان الشيخ، وسهولة الوصول إليه.
ثالثا: لابد من توفر الوقت لطلب العلم، فالمشغول لايمكنه الطلب، لأن طلب العلم يحتاج إلى وقت طويل، وليس نزوة طارئة يوما أو يومين.
رابعا: لابد من معرفة الشيخ بك، فهذا يعينك على الانتظام، وتفقد الشيخ لك عند الحاجة، أما أنك تحضر خلف الصفوف، فإن حضرت لم يشعر بك أحد، وإن غبت لم يفقدك أحد فهذا يضعف الهمة في الطلب.
خامسا: لابد من طرق التلقي المؤثرة والمعينة على الطلب، كقراءة مباشرة على الشيخ، أو تسميع عليه فهذا يفيد في أشياء كثيرة (سلامة اللغة/ فهم النص/ ترسيخ العبارة/ استحضار الذهن/ تعليق للشيخ/ خصوصية التلقي/..).
سادسا: طلب العلم لا يتوقف عند سن معين.
رأى رجلٌ مع الإمام أحمد محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، ومعك المحبرةُ تحملها، فقال: “مع المحبرة إلى المقبرة” .
وقال ابن عقيل الحنبلي (المتقدم وليس شيخنا): “وأنا في عشر الثمانين أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين” .
والله الموفق.
(كتبه/عبدالعزيز بن محمد الحويطان)