أنا ووالدي وابن عقيل و ابن باز – الشيخ محمد بن سليمان المهنا

أنا ووالدي وابن عقيل وابن باز – مقالةٌ بقلم: محمّد بن سليمان المهنّا
بسم الله الرحمن الرحيم
نَعِمْنا -أنا وأخي خالد- بنشأةٍ طيّبةٍ بفضل الله ثُمّ بفضل والدي الشيخ سليمان المهنا حفظه الله ورعاه وجزاه عنّا خيرا.
كان والدي (أيّام رئاسته لمحكمة الرياض وإلى الآن) وثيق الصِلة بالمشايخ والعُلماء: يدعوهم إلى بيته، ويُجيب دعواتهم، ويُشاركهم في مناسباتهم.
وقد كان وجود الشيخ ابن باز في ذلك الحين سبباً لاجتماع المشايخ، فقد خصّص -رحمه الله- مساء الأربعاء ليلة الخميس لتلبية الدعوات الكثيرة التي ترِد إليه، حيثُ كان الفضلاء -بجميع طبقاتهم- يُحبّونه، ويدعونه إلى زيارتهم، ويتمنّون إجابته لدعواتهم.
كان المُحِبّون -في أحيان كثيرة- إذا دعوا الشيخ دعوا معه أعيان أهل العِلم، كالمشايخ: عبدالله بن عقيل وعبدالله بن قعود وعبدالله بن جبرين وعبدالرحمن الفريّان وعبدالرحمن البرّاك وصالح بن غصون وصالح اللحيدان وصالح الفوزان وعبدالعزيز آل الشيخ ووالدي حفظه الله، وغيرهم كثير.
كان الوالد يأخذني وأخي معه إلى تلك المناسبات، وكان أثر ذلك علينا حَسَناً طيّبا، فقد عرفنا كبار المشايخ: رأيناهم، وسمعنا منهم، وشهِدنا حواراتهم في مسائل عديدة لا زلت أتذكّر بعض تفاصيلها.
كانت للشيخ -عند حضوره للمناسبات- طريقة ثابتة معروفة: إذا وصل تَلقّاه مَنْ في المجلس بالسلام، فإذا فَرَغَ مِن السلام أخذ مجلسه وتبادل مع الحاضرين شيئاً من الكلام أثناء صَبّ القهوة، ثُم أمر قارئه أن يقرأ في كتاب مِنْ كتب أهل العِلم، فيسمع ويُعلّق ويُجيب على أسئلة الحضور واستشكالاتهم، حتّى يُقلّطهم صاحب الدعوة إلى العَشَاء.
فإن لم يكن ثَمّ قارئٌ ولا كتاب، طَلَب الشيخ مِنْ أحد الحاضرين أن يتلو شيئاً من القُرآن، فيُعلّق الشيخ على تلك الآيات بحديثٍ يمتدّ إلى عشر دقائق أو ربع ساعة (وقد تلا في تلك المجالس عددٌ من المشايخ، منهم الشيخ عبدالرحمن البرّاك، والشيخ عبدالعزيز آل الشيخ «المُفتي» وتلوتُ أنا مّرتين أو ثلاثاً ولله الحمد والمِنّه).
وبعد التلاوة والتعليق، يستقبل الشيخ الأسئلة والاستفسارات وبعض الشكاوى وشيئاً من الحديث عن الواقع العلمي والدعوي حتى يحين موعد العَشَاء.
بعد هذه المُقدّمة الطويلة، سأُحدّثكم عمّا ذكرتُهُ في عنوان هذه المقالة: (أنا ووالدي وابن عقيل وابن باز).
وخَبَرُ ذلك أنّ الشيخ -رحمه الله- كان مدعوّاً عند الشيخ القاضي د. صالح بن عبدالكريم الزيد، وكنتُ ممن شهِد ذلك المجلس مع والدي -حفظه الله- وأنا في المرحلة الثانويّة، فلمّا فُتِح باب الأسئلة، سألتُ الشيخ هذا السؤال: هل الإسرار في الصلاة السرّية والجهر في الصلاة الجهرية واجبٌ أو مستحب؟.
فأطرق الشيخ بُرهةً ثُمّ قال: نُراجع المسألة، ثمّ نادى مُضَيّفنا وقال: يا شيخ صالح، عندك المُغني أو المجموع أو روضة الطالبين؟ فذهب الشيخ صالح إلى مكتبته، وأتى بالمُغني وأعطاه الشيخ وقد فتح على موضع المسألة من الكتاب، فقال الشيخ ابن باز: مَنْ يقرأ علينا؟ فبادر والدي -جزاه الله خيراً- وقال: يقرأ عليك الذي سألك عن المسألة: ابني محمّد.
فناداني الشيخ وأعطاني الكتاب، فشرعتُ في القراءة عليه..
وفي أثناء القراءة مررتُ بفعل منصوب بلام التعليل، لكنّي لم أنصِبه، فردّني الشيخ وقال: أعِد، فأعدتُ وعلمتُ أنّي أخطأت فقلت: هذا الفعل منصوب؟ فقال الشيخ وهو يبتسم: ما أدري عنك، أنت اللي تقرا.. فجزمتُ بذلك وقلت: نعم يا شيخ هو منصوب، وقرأتُه منصوباً وظننتُ أني نجوت، لكنّ الشيخ ردّني وقال: الفعل هنا منصوبٌ بماذا؟ فسكتُّ ولم أُجب، فقال: اللام اللي قبل الفعل وش اسمها؟ فسكتُّ قليلاً ثُمّ رفعتُ رأسي فإذا بالشيخ عبدالله بن عقيل (المعروف بشيخ الحنابلة) يُشير إليّ بيده، ويكتب لي في الهواء بأصبعه، ويُلقّنني بحركة فمه، ويقول: لام كَي، لام كَي (وهي لام التعليل التي تُفيد معنى كَي) فعرفتُها وقُلتُ: لام كَي يا شيخ، فقال: أحسنت، ثُمّ أكملتُ القراءة عليه حتّى فرغتُ من قراءة الموضع المقصود قراءته.
ثُمُ علّق الشيخ، وتضمّن تعليقه الجواب على سؤالي، ولكنّي لا أتذكّر الجواب الآن، وإن كان يغلب على ظنّي أنّه مال إلى الوجوب لأن هذا هو حال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال كما في البخاري: (صلّوا كما رأيتموني أُصلّي).
أظنّ هذا ملخّص جوابه، وإنّما قلت (أظنّ) لأنّ المعروف عنه -كما في مجموع فتاواه- أنّه يرى الاستحباب، فهل له في المسألة اختياران؟ أم أنّ ما نَسبتُه إليه من الميل إلى الوجوب وهمٌ منّي بعد هذه السنين المتطاولة؟ الله أعلم.
اللهمّ اغفر لشيخي الشيخ عبدالعزيز بن باز، ولشيخي الشيخ عبدالله بن عقيل، واحفظ والدي الشيخ سليمان المهنا، وأعظِم له الأجر والفضل والجزاء.