مقال عن أثرالطرائف اللغويةفي المتعلمين لقواعدالعربية-د/عادل جوده
وقفة في ثنايا الملتقيات الثقافية… أثر الطرائف اللغوية في المتعلمين لقواعد العربيةد. عادل علي جوده/ عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين
محاضرة قيمة تحت عنوان “أثر الطرائف اللغوية في المتعلمين لقواعد العربية”، نلت شرف حضورها لسعادة الأستاذ الدكتور عبد الله بن حمد الدايل، في مقر “ندوة الشيخ عبد الله ابن عقيل”، حديثا، وأدارها بامتياز سعادة الأستاذ عبد الله الراشد.
لقد طاف بنا المحاضر في جماليات الطرائف اللغوية ـ التي تزخر بها كتب اللغة والأدب والتراجم والأخبار، مثل كتاب “عيون الأخبار” لابن قتيبة الدينوري، وكتاب “العِقد الفريد” لابن عبدربه الأندلسي، وكتاب “أخبار النحويين البصريين” لأبي سعيد السيرافي، وكتاب “نزهة الألفباء” لأبي البركات الأنباري، وكتاب “ربيع الأبرار ونصوص الأخيار” لمحمود الزمخشري، وكتاب “أخبار الحمقى والمغفلين” لأبي الفرج بن الجوزي، وكتب كثيرة أخرى ـ مُعرِّفًا الطرائف بأنها كل شيء مستحدث عجيب يبعث على الضحك أو الابتسامة أو الاندهاش، ومؤكدًا أن الكثير من هذه الطرائف يحتاج إلى التحقيق والتوثيق حيث إن بعضها يكون موضوعًا على سبيل التندر أو التسلية، ودليل ذلك أن تداوُل هذا الكثير من الطرائف يعتمد صيغة التمريض؛ أي (قال أعرابي)، أو (قيل)، أو (يُروى)، أو (يُحكى)، … إلخ.
ثم شرع في تبيان خلفية عنوان محاضرته مشيرًا إلى أنه كان قد درّسَ مقرر “التطبيقات النحوية والصرفية”، لشعبتين متتاليتين من طلاب تخصص اللغة العربية في كلية المعلمين، وأنه اعتمد في تدريس الشعبة الأولى النصوص العادية وهي المجموعة الضابطة، فكانت نتائج الطلبة في معظمها متدنية؛ بالكاد يحصل طالب أو طالبان على تقدير ممتاز، وطالب أو طالبان على تقدير جيد جدًّا أو جيد، بينما جاءت نتائج الآخرين وهم الغالبية بتقدير مقبول، الأمر الذي جعله يغير طريقة التدريس، فاعتمد تدريس الشعبة الثانية باستخدام نصوص الطرائف اللغوية وهي المجموعة التجريبية التي فاقت سابقتها من حيث الدرجات التي خلت من تقدير (مقبول) بل تراوحت النتائج بين الجيد جدًّا والممتاز.
ثم راح يثري الوقت بالكثير من الجمال وهو يسرد بعضًا من تلك الطرائف فرسم من خلالها البسمة على شفاه الحاضرين وقدّم لهم دورة تدريبة شائقة في قواعد اللغة العربية، ويطيب لي هنا أن أنقل للقارئ الكريم بعضًا مما قدمه المحاضر من دروس نحوية في تلك الأمسية الماتعة:
“طُرْفة؛ أراد أحدهم أن يلقن الشهادة لرجل مريض يحتضر فقال له: قل: لا إله إلا اللهُ، وإن شئت: لا إله إلا اللهَ، والثانية أحبّ إلى سيبويه. فقال أحد الحاضرين ويحك! أجئت تلقنُه الشهادةَ أم تعلمُهُ النحو؟”. وأشار إلى أنه استثمر هذه الطرفة في إعراب “لا إله إلا الله، بأسلوب طريف محبب إلى النفس، مشيرًا إلى أن لها إعرابين، فالذي يرفع لفظ الجلالة فالتقدير (الإلهُ اللهُ) مبتدأ وخبر فـ (لا: نافية للجنس)، و(إلهَ: اسمها مبني على الفتح في محل نصب)، و(إلا: أداة حصر)، ولفظ الجلالة (اللهُ: خبر). والذي ينصب لفظ الجلالة؛ فـ (إلا: أداة استثناء؛ أي أستثني اللهَ).
“طرفة؛ قول أحدهم: رأيت رجلًا ضريرًا يسأل الناس قائلًا: (ضعيفًا مسكينًا فقيرًا)، فقلت له: يا هذا علام نصبت (ضعيفًا مسكينًا فقيرًا)؟، فقال: بفعل محذوف تقديره (ارحموا).، قال الرجل: فأخرجت كل ما معي من نقود وأعطيته إياها فرحًا بما قال.” وهنا يتضح أن المتسول نحويٌّ متمكن.
“طرفة؛ حكى العسكري في كتابه التصحيف أنه قيل لأحدهم: ما فعل أبوك بحمارِهِ؟ أجاب: باعِهِ، قال: لِمَ قلتَ: (باعِهِ)؟ قال: (فلِمَ قلتَ أنت: (بحمارِهِ)؟ قال الرجل: أنا جررته بالباء، فرد عليه بقوله: فلِمَ باؤك تَجُرُّ وبائي لا تَجُرُّ؟”، الخطأ؛ المفروض أن يقول (باعَهُ)؛ فعل ماض مبني على الفتح والباء فيه أصلية، فليست كل باء حرف جر.
“طُرْفة؛ قال أحدهم لصاحبٍ له: ما فعل أبوك؟ قال: مات. قال: ومـــا كانت علته؟ قال: (ورمت قدميه). قال: قل قدماه! قال: فارتفع الورم إلى ركبتاه. قال: قل ركبتيه! فقال: دعني يا رجل فما موت أبي بأشدّ عليّ من نحوِك هذا!”؛ فالسائل يحاول أن يصحح، ولكن دون جدوى لأن المجيب يخطئ؛ لأنه نصب الفاعل قائلًا (قدميه)، ورفع المجرور قائلًا (ركبتاه)؛ لجهله في النحو.
“طرفة؛ قال رجل لأحد النحاة: ما تقول في رجل ترك أبيه وأخيه؟، فقال النحويّ: ترك أباه وأخاه!، يصحح له، فقال الرجل: فما لأباه وأخاه؟، فقال النحويّ: فما لأبيه وأخيه!!، فقال الرجل للنحويّ: أراني كلما تابعتُك خالفتَني!”. فالنحويّ هنا يصحّح الاستعمال النحوي للرجل الذي سأله؛ إذ لا يجوز نصب الأسماء الخمسة بالياء؛ لأنها تنصب بالألف، كما لا يجوز أن تجرّ بالألف بل الصواب جرّها بالياء.”
“طُرْفة؛ في أخبار النحويين: أن رجلًا قال لسمَّـاك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟، فقال السماك: بدرهمان. فضحك الرجل!، فقال السماك: أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان!”، فالرجل ضحك بسبب الخطأ النحويّ وهو قول السمّاك: (بدرهمان) لأن الباء حرف جرّ فالصواب (بدرهمين)، أما السمّاك فظن أن قوله: (بدرهمان) صحيح بدليل احتجاجه بقول سيبويه؛ وفاته أن الباء حرف جر. أما قول سيبويه: (ثمنها درهمان) فصحيح لأنهما مبتدأ وخبر فالاستعمال هنا يختلف.”
طرائف كثيرة تناولها المحاضر الكريم، وكان في نهاية كل طرفة يحرص على قول “إن صحت الرواية”، وأشار أنه مع كل طرفة كان يفسح المجال أمام طلابه لمناقشة محتواها وتبيان دقة تفاصيلها من حيث النحو والصرف.
وقبل أن يختم المحاضر الكريم محاضرته وثق رأيًا في غاية الأهمية في إطار الأهداف المراد تحقيقها من تعليم اللغة العربية، مشيرًا إلى أن أهم هدفين للعملية التعليمية هما: أولًا أن يتحدث التلميذ لغة عربية صحيحة ولو بشكل متوسط، وثانيًا أن يكتب كتابة سليمة، معربًا عن اعتقاده بأن أسلوب التطبيق هو الذي يعزز أهداف تعليم اللغة العربية، أما حشو ذهن الطالب بأشياء تحفظ في قواعد اللغة العربية، كأن نقول له مثلًا (عرّف المبتدأ أو عرّف الخبر) فهذا ليس من الشيء الذي يحبذه في التعليم، مؤكدًا أنه يجب أن تترك التعريفات والشروط للدراسات العليا؛ الماجستير والدكتوراة، أما التعليم في الابتدائي والمتوسط والثانوي فلا ضرورة لأن نحشو أذهان التلاميذ بأشياء يحفظونها عن ظهر قلب ثم لا يمارسونها في حياتهم العملية، مؤكدًا أن هذا الأمر من عيوب تدريسنا القديم الذي جعل هناك فجوة بين طلابنا ولغتهم.
أما وقفتي؛ فتتصل بملاحظة أشار إليها المحاضر الكريم حيال أولئك الذين يمنحون جل اهتمامهم للغة الإنجليزية أو الفرنسية، أو غيرهما، على حساب اللغة العربية التي وسعت القرآن الكريم بلاغة وإعجازًا، فكانت لي مداخلة قلت فيها: نعم، هكذا هي حالنا مع لغتنا العربية التي نعتز بكونها هويتَنا، ونتحسس معالم فخرنا لكونها أعظم لغة حية في هذا الكون، فهي تأتي في المركز الأول على مستوى لغات العالم من حيث عدد مفرداتها؛ إذ تشتمل على ما يزيد عن اثني عشر مليونًا وثلاثمئة ألف كلمة، بينما تأتي اللغة الإنجليزية في المركز الثاني بستمئة ألف كلمة، ومع ذلك يحلو للكثير منا استخدام بعض مفرداتها أثناء حديثهم باللغة العربية، وإنه لأمر محزن، وما أخشاه أن تضيعَ هُويتُنا، وأن يتيهَ انتماؤُنا، أو في أقل تقدير أن تزيغَ ألسنتُنا، وفي هذا الإطار وجدتُني أتحسسُ لسانَ الضادِ ينشدُ داخلي مُعاتبًا:
يَنْتَابُنِي أَلَمِي يَجْتَاحُنِي قَهْرِي
كَمْ ضَاعَ مِنْ حَرْفِي كَمْ هَان مِنْ قَدْرِي
أَوَّاهُ يَا وَلَدِي أَوَّاهُ يَا كَبِدِي
مِنْ هَوْلِ مَا زَاغَ اللِّسَانُ عَنْ ذِكْرِي
هَلْ تَشْكُو مِنْ نَبْضِي أَمْ تَشْكُو مِنْ نَغَمِي أَمْ
حَادَكَ الْغَرْبُ عَنْ مَدِّي وَعَنْ جَزْرِي
إِنِّي أَرَى مِنْكَ إِدْبَارًا بِلَا جَزَعٍ هَلْ
صِرْتَ فِـي طَوْعِ مَنْ يُغْرِيكَ فِي هَجْرِي
عُدْ يَا مُنَى قَلْبِ مَعْشُوقٍ، فَهَذَا أَنَا
تَاجٌ مِنَ الْمَاسِ، بَرْقٌ فِي سَمَا شِعْرِي
قَدْ غَابَ عَنْكَ الجَوَى مُذْ غِبْتَ عَنْ خَلَدِي
مَا فُـزْتَ بِالضَّادِ يَوْمَ انْزَحْتَ عِنْ صَدْرِي
فَاذْهَبْ إِلَى أُخْرَى وَاذْهَبْ إِلَـى عَبَثٍ
اذْهَبْ، وَلَا تَأْتِ لِـي بِاللَّغْوِ مِنْ غَيْرِي
أَمَّا أَنَا فَاسْأَلِ الرُّوَّادَ عَنْ وَطَنِي
اسْألْ إِذَا تَاهَ مَنْ أَغْوَاكَ عَنْ أَمْرِي
فَلْتَأْخُذُوا مِنْ صَدَى قَوْلِي وَمِنْ وَجَعِي
نُصْحًا جَمِيلًا بِهِ يُرْوَى لَكُمْ خَيْرِي
هَذِي اللُّغَاتُ الَّتِي ذُبْتُمْ بِهَا طَرَبًا
لَيْسَتْ بِمِثْلِي وَلَا يَلْهُو بِهَا شَطْرِي.
د. عادل علي جوده/ عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين
مقال عن أثرالطرائف اللغويةفي المتعلمين لقواعدالعربية-د/عادل جوده
أدخل النص هنا…
مقال عن أثرالطرائف اللغويةفي المتعلمين لقواعدالعربية-د/عادل جوده
وقفة في ثنايا الملتقيات الثقافية… أثر الطرائف اللغوية في المتعلمين لقواعد العربيةد. عادل علي جوده/ عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين
محاضرة قيمة تحت عنوان “أثر الطرائف اللغوية في المتعلمين لقواعد العربية”، نلت شرف حضورها لسعادة الأستاذ الدكتور عبد الله بن حمد الدايل، في مقر “ندوة الشيخ عبد الله ابن عقيل”، حديثا، وأدارها بامتياز سعادة الأستاذ عبد الله الراشد.
لقد طاف بنا المحاضر في جماليات الطرائف اللغوية ـ التي تزخر بها كتب اللغة والأدب والتراجم والأخبار، مثل كتاب “عيون الأخبار” لابن قتيبة الدينوري، وكتاب “العِقد الفريد” لابن عبدربه الأندلسي، وكتاب “أخبار النحويين البصريين” لأبي سعيد السيرافي، وكتاب “نزهة الألفباء” لأبي البركات الأنباري، وكتاب “ربيع الأبرار ونصوص الأخيار” لمحمود الزمخشري، وكتاب “أخبار الحمقى والمغفلين” لأبي الفرج بن الجوزي، وكتب كثيرة أخرى ـ مُعرِّفًا الطرائف بأنها كل شيء مستحدث عجيب يبعث على الضحك أو الابتسامة أو الاندهاش، ومؤكدًا أن الكثير من هذه الطرائف يحتاج إلى التحقيق والتوثيق حيث إن بعضها يكون موضوعًا على سبيل التندر أو التسلية، ودليل ذلك أن تداوُل هذا الكثير من الطرائف يعتمد صيغة التمريض؛ أي (قال أعرابي)، أو (قيل)، أو (يُروى)، أو (يُحكى)، … إلخ.
ثم شرع في تبيان خلفية عنوان محاضرته مشيرًا إلى أنه كان قد درّسَ مقرر “التطبيقات النحوية والصرفية”، لشعبتين متتاليتين من طلاب تخصص اللغة العربية في كلية المعلمين، وأنه اعتمد في تدريس الشعبة الأولى النصوص العادية وهي المجموعة الضابطة، فكانت نتائج الطلبة في معظمها متدنية؛ بالكاد يحصل طالب أو طالبان على تقدير ممتاز، وطالب أو طالبان على تقدير جيد جدًّا أو جيد، بينما جاءت نتائج الآخرين وهم الغالبية بتقدير مقبول، الأمر الذي جعله يغير طريقة التدريس، فاعتمد تدريس الشعبة الثانية باستخدام نصوص الطرائف اللغوية وهي المجموعة التجريبية التي فاقت سابقتها من حيث الدرجات التي خلت من تقدير (مقبول) بل تراوحت النتائج بين الجيد جدًّا والممتاز.
ثم راح يثري الوقت بالكثير من الجمال وهو يسرد بعضًا من تلك الطرائف فرسم من خلالها البسمة على شفاه الحاضرين وقدّم لهم دورة تدريبة شائقة في قواعد اللغة العربية، ويطيب لي هنا أن أنقل للقارئ الكريم بعضًا مما قدمه المحاضر من دروس نحوية في تلك الأمسية الماتعة:
“طُرْفة؛ أراد أحدهم أن يلقن الشهادة لرجل مريض يحتضر فقال له: قل: لا إله إلا اللهُ، وإن شئت: لا إله إلا اللهَ، والثانية أحبّ إلى سيبويه. فقال أحد الحاضرين ويحك! أجئت تلقنُه الشهادةَ أم تعلمُهُ النحو؟”. وأشار إلى أنه استثمر هذه الطرفة في إعراب “لا إله إلا الله، بأسلوب طريف محبب إلى النفس، مشيرًا إلى أن لها إعرابين، فالذي يرفع لفظ الجلالة فالتقدير (الإلهُ اللهُ) مبتدأ وخبر فـ (لا: نافية للجنس)، و(إلهَ: اسمها مبني على الفتح في محل نصب)، و(إلا: أداة حصر)، ولفظ الجلالة (اللهُ: خبر). والذي ينصب لفظ الجلالة؛ فـ (إلا: أداة استثناء؛ أي أستثني اللهَ).
“طرفة؛ قول أحدهم: رأيت رجلًا ضريرًا يسأل الناس قائلًا: (ضعيفًا مسكينًا فقيرًا)، فقلت له: يا هذا علام نصبت (ضعيفًا مسكينًا فقيرًا)؟، فقال: بفعل محذوف تقديره (ارحموا).، قال الرجل: فأخرجت كل ما معي من نقود وأعطيته إياها فرحًا بما قال.” وهنا يتضح أن المتسول نحويٌّ متمكن.
“طرفة؛ حكى العسكري في كتابه التصحيف أنه قيل لأحدهم: ما فعل أبوك بحمارِهِ؟ أجاب: باعِهِ، قال: لِمَ قلتَ: (باعِهِ)؟ قال: (فلِمَ قلتَ أنت: (بحمارِهِ)؟ قال الرجل: أنا جررته بالباء، فرد عليه بقوله: فلِمَ باؤك تَجُرُّ وبائي لا تَجُرُّ؟”، الخطأ؛ المفروض أن يقول (باعَهُ)؛ فعل ماض مبني على الفتح والباء فيه أصلية، فليست كل باء حرف جر.
“طُرْفة؛ قال أحدهم لصاحبٍ له: ما فعل أبوك؟ قال: مات. قال: ومـــا كانت علته؟ قال: (ورمت قدميه). قال: قل قدماه! قال: فارتفع الورم إلى ركبتاه. قال: قل ركبتيه! فقال: دعني يا رجل فما موت أبي بأشدّ عليّ من نحوِك هذا!”؛ فالسائل يحاول أن يصحح، ولكن دون جدوى لأن المجيب يخطئ؛ لأنه نصب الفاعل قائلًا (قدميه)، ورفع المجرور قائلًا (ركبتاه)؛ لجهله في النحو.
“طرفة؛ قال رجل لأحد النحاة: ما تقول في رجل ترك أبيه وأخيه؟، فقال النحويّ: ترك أباه وأخاه!، يصحح له، فقال الرجل: فما لأباه وأخاه؟، فقال النحويّ: فما لأبيه وأخيه!!، فقال الرجل للنحويّ: أراني كلما تابعتُك خالفتَني!”. فالنحويّ هنا يصحّح الاستعمال النحوي للرجل الذي سأله؛ إذ لا يجوز نصب الأسماء الخمسة بالياء؛ لأنها تنصب بالألف، كما لا يجوز أن تجرّ بالألف بل الصواب جرّها بالياء.”
“طُرْفة؛ في أخبار النحويين: أن رجلًا قال لسمَّـاك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟، فقال السماك: بدرهمان. فضحك الرجل!، فقال السماك: أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان!”، فالرجل ضحك بسبب الخطأ النحويّ وهو قول السمّاك: (بدرهمان) لأن الباء حرف جرّ فالصواب (بدرهمين)، أما السمّاك فظن أن قوله: (بدرهمان) صحيح بدليل احتجاجه بقول سيبويه؛ وفاته أن الباء حرف جر. أما قول سيبويه: (ثمنها درهمان) فصحيح لأنهما مبتدأ وخبر فالاستعمال هنا يختلف.”
طرائف كثيرة تناولها المحاضر الكريم، وكان في نهاية كل طرفة يحرص على قول “إن صحت الرواية”، وأشار أنه مع كل طرفة كان يفسح المجال أمام طلابه لمناقشة محتواها وتبيان دقة تفاصيلها من حيث النحو والصرف.
وقبل أن يختم المحاضر الكريم محاضرته وثق رأيًا في غاية الأهمية في إطار الأهداف المراد تحقيقها من تعليم اللغة العربية، مشيرًا إلى أن أهم هدفين للعملية التعليمية هما: أولًا أن يتحدث التلميذ لغة عربية صحيحة ولو بشكل متوسط، وثانيًا أن يكتب كتابة سليمة، معربًا عن اعتقاده بأن أسلوب التطبيق هو الذي يعزز أهداف تعليم اللغة العربية، أما حشو ذهن الطالب بأشياء تحفظ في قواعد اللغة العربية، كأن نقول له مثلًا (عرّف المبتدأ أو عرّف الخبر) فهذا ليس من الشيء الذي يحبذه في التعليم، مؤكدًا أنه يجب أن تترك التعريفات والشروط للدراسات العليا؛ الماجستير والدكتوراة، أما التعليم في الابتدائي والمتوسط والثانوي فلا ضرورة لأن نحشو أذهان التلاميذ بأشياء يحفظونها عن ظهر قلب ثم لا يمارسونها في حياتهم العملية، مؤكدًا أن هذا الأمر من عيوب تدريسنا القديم الذي جعل هناك فجوة بين طلابنا ولغتهم.
أما وقفتي؛ فتتصل بملاحظة أشار إليها المحاضر الكريم حيال أولئك الذين يمنحون جل اهتمامهم للغة الإنجليزية أو الفرنسية، أو غيرهما، على حساب اللغة العربية التي وسعت القرآن الكريم بلاغة وإعجازًا، فكانت لي مداخلة قلت فيها: نعم، هكذا هي حالنا مع لغتنا العربية التي نعتز بكونها هويتَنا، ونتحسس معالم فخرنا لكونها أعظم لغة حية في هذا الكون، فهي تأتي في المركز الأول على مستوى لغات العالم من حيث عدد مفرداتها؛ إذ تشتمل على ما يزيد عن اثني عشر مليونًا وثلاثمئة ألف كلمة، بينما تأتي اللغة الإنجليزية في المركز الثاني بستمئة ألف كلمة، ومع ذلك يحلو للكثير منا استخدام بعض مفرداتها أثناء حديثهم باللغة العربية، وإنه لأمر محزن، وما أخشاه أن تضيعَ هُويتُنا، وأن يتيهَ انتماؤُنا، أو في أقل تقدير أن تزيغَ ألسنتُنا، وفي هذا الإطار وجدتُني أتحسسُ لسانَ الضادِ ينشدُ داخلي مُعاتبًا:
يَنْتَابُنِي أَلَمِي يَجْتَاحُنِي قَهْرِي
كَمْ ضَاعَ مِنْ حَرْفِي كَمْ هَان مِنْ قَدْرِي
أَوَّاهُ يَا وَلَدِي أَوَّاهُ يَا كَبِدِي
مِنْ هَوْلِ مَا زَاغَ اللِّسَانُ عَنْ ذِكْرِي
هَلْ تَشْكُو مِنْ نَبْضِي أَمْ تَشْكُو مِنْ نَغَمِي أَمْ
حَادَكَ الْغَرْبُ عَنْ مَدِّي وَعَنْ جَزْرِي
إِنِّي أَرَى مِنْكَ إِدْبَارًا بِلَا جَزَعٍ هَلْ
صِرْتَ فِـي طَوْعِ مَنْ يُغْرِيكَ فِي هَجْرِي
عُدْ يَا مُنَى قَلْبِ مَعْشُوقٍ، فَهَذَا أَنَا
تَاجٌ مِنَ الْمَاسِ، بَرْقٌ فِي سَمَا شِعْرِي
قَدْ غَابَ عَنْكَ الجَوَى مُذْ غِبْتَ عَنْ خَلَدِي
مَا فُـزْتَ بِالضَّادِ يَوْمَ انْزَحْتَ عِنْ صَدْرِي
فَاذْهَبْ إِلَى أُخْرَى وَاذْهَبْ إِلَـى عَبَثٍ
اذْهَبْ، وَلَا تَأْتِ لِـي بِاللَّغْوِ مِنْ غَيْرِي
أَمَّا أَنَا فَاسْأَلِ الرُّوَّادَ عَنْ وَطَنِي
اسْألْ إِذَا تَاهَ مَنْ أَغْوَاكَ عَنْ أَمْرِي
فَلْتَأْخُذُوا مِنْ صَدَى قَوْلِي وَمِنْ وَجَعِي
نُصْحًا جَمِيلًا بِهِ يُرْوَى لَكُمْ خَيْرِي
هَذِي اللُّغَاتُ الَّتِي ذُبْتُمْ بِهَا طَرَبًا
لَيْسَتْ بِمِثْلِي وَلَا يَلْهُو بِهَا شَطْرِي.
د. عادل علي جوده/ عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين