سبع وقفات في سيرة سماحة الشيخ عبدالله العقيل رحمه الله – الشيح محمد زياد التكله

سبع وقفات في سيرة سماحة الشيخ عبد الله العقيل رحمه الله كلمة أُلقيت في مجلس الأربعاء الأسبوعي في منزل سماحته ليلة الخميس 24 شوال 1432
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
قد طلب مني أبناء شيخنا الأبرار الحديثَ معكم هذه الليلة عن سماحة والد الجميع الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل رحمه الله تعالى، وجزاه عنا أوفى الجزاء.
إن الحديث عن سماحة الشيخ رحمه الله في هذا المجلس له عائقان:
أولهما: أني لستُ أولى من يتكلم عن الشيخ في هذا المجلس، فهناك أبناؤه الكرام، والزملاء والفضلاء الذين هم خيرٌ مني.
والأمر الثاني: أنني من خلال تردادي على هذا البيت من بيوت العلم والحكمة مدة تزيد على 12 عاماً ما جربتُ أن أتولى الحديث وأمسك اللاقط فيه إلا قارئاً على سماحة الشيخ، لا أكثر من ذلك، وما حسبتُ ولا تمنيتُ أن يأتي يومٌ أتحدث فيه عن شيخنا معزياً في مجلسه، فالله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إخواني الكرام:
إن الحديث عن سيرة عَلَم من العلماء الربانيين حديثٌ لا يُمل، ولا أحسبُ أحداً من الحضور يجهل مجمل سيرة الشيخ الفقيد وتاريخه، ولا سيما بعد أن كُتبت عنه الكتب والمقالات والمقابلات في حياته وبعد مماته.
ولا شك أن الفائدة من استعراض سير الأعلام النبلاء تكون باستخلاص العبر وتحفيز النفس للاقتداء والأسوة الحسنة، ولا سيما كل ما تأخر الزمان وندر القدوات.
ولهذا سأقتصر في كلمتي الليلة على بعض الأمور التي استوقفتني في حياة الشيخ ورأيت فيها العبرة والقدوة الحسنة.
نعم، لقد كتبتُ عن شيخنا ومواقفه مرات، وتكلمتُ عنه مرتين في قناة المجد، ولكني كنتُ بعد كل حلقة أرجع لنفسي وأقول: لقد تركتَ كذا، وليتكَ ذكرت هذا أيضاً، ولهذا فإني أعتذر عن التقصير في ما مضى، وأعتذر عنه مقدماً فيما يأتي، وأستعين الله وأستهديه، وأسأله أن يكون ما ذكرته وأذكره مفيداً خالصاً لوجهه الكريم.
استوقفتني أمور عدة في سيرة الشيخ رحمه الله:
الوقفة الأولى: الالتزام الشديد بالسنّة والدليل:
فمع كون شيخنا رأس المذهب وشيخ الحنابلة إلا أنه لا يقدّم شيئا على الدليل الصحيح، ومن المعتاد في دروسه أن يقول بعد تقريره للمسألة: هذا المذهب، والصحيح كذا لحديث كذا. أو يقول: والقول الثاني في المسألة كذا، وهو الصحيح، واختاره فلان وفلان. وغالباً ما يستشهد باختيارات ابن تيمية وابن سعدي رحمهما الله، وقد يخالفهما، فالشاهد أنه لا يتعصب لغير الحق، وعنده عناية بمعرفة الصحيح والضعيف في أحاديث الأحكام، ويبني عليها اختياراته وترجيحاته، فمن هنا كنت أجد عنده تميزاً على غيره من مشايخي الكرام الذين درستُ عليهم الفقه.
الوقفة الثانية: قرنه العلم بالعمل:
وكما روي في الأثر: هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.
• ومن ذلك: قضية حفظ الوقت: فالشيخ كان كثير الوصاية لطلابه بحفظ الوقت، ويردد قول الشاعر:
والوقت أنفس ما عُنيتَ بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
هذا قوله ووصيته، وأما عمله فكان لا يكاد يضيع دقيقة من عمره، فجلُّ وقته في التدريس، والباقي ما بين صلة رحم، أو زيارة في الله (كعيادة مريض، أو حضور جنازة، أو تعزية)، أو مؤانسة ضيف، أو القراءة، حتى في السيارة كان يقضي الوقت بالتنفل ويحضر كتابا للقراءة، ثم إذا جاءه ضيف ذا مكانة نراه يؤانسه شيئا من الوقت، ثم يقول: عندنا الإخوان مجتمعون في قراءة إذا رغبتم يكملون، فيستأذن ضيفه بمنتهى اللطف.
• ومنها حثُّه الدائم على تقوى الله والعبادة، ويردد في وصاياه قوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، هذا قوله، وأما عمله فكان شيخنا رحمه لله فيما أحسب من الأتقياء، له حظٌّ وافر من العبادة، فهو مواظب على القيام آخر الليل، ولما تعب آخر أيامه كان يقدِّم بعض ما يقومه فيصليه بعد صلاة المغرب، وهو يرى أن قيام الليل يصح من ذلك الوقت، وأما الرواتب والنوافل فلا يدعها، وله ورد يومي من القرآن والذكر، وإلى أواخر عمره كان مواظبا على العمرة وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء في مكة، وقد يخالف بعض ترتيبه بين وقت وآخر حتى لا يبقى عادة، ويحج سنويا، وغير ذلك من العبادات.
الوقفة الثالثة: طلب العلم من المهد إلى اللحد:
أو كما قال الإمام أحمد: المحابر إلى المقابر، فشيخنا منذ عرف نفسه وهو في طلب العلم، فدخل الكتاب وتعلم لدى أبيه وأخيه، ثم دخل مدرستي الصالح والقرعاوي، ثم حلقات كبار المشايخ، ولم ينقطع:
سافر إلى مكة سنة 1353 فاستغل السفرة بالقراءة على الشيخ عمر بن سليم وحضور دروس الحرم. سافر للجنوب فاستفاد من علمائه وأدبائه، وصار يقرأ في كتب الشافعية التي عندهم- تعيّن قاضيا للعاصمة، وكان يلازم دروس الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
ثم تولى قضاء عنيزة وفي نفس الوقت يلازم شيخه السعدي، بل كان أحيانا يخرج من درسه ويوصله لبيته، ثم يتجه ليفتح المحكمة، مع أن القاضي ذلك الوقت مكانته رفيعة جدا أضعاف ما هي عليه اليوم، أي أنه بقي يثني الركب لطلب العلم على المشايخ أكثر من ثلاثين سنة متواصلة.
ثم لما تقاعد وصار رئيسا للجنة الشرعية بمصرف الراجحي فرح بأنه يدرس المعاملات المالية المعاصرة ويستفيد معلومات جديدة، وهكذا بقي يستزيد ويفرح بالكتاب الجديد والمعلومة الجديدة إلى يوم دخوله الغيبوبة، فالشيخ قضى هذا العمر الطويل لا يستنكف عن الاستزادة في العلم وطلبه حتى الممات.
الوقفة الرابعة: (من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه):
وهذا وإن كان من الأحاديث المشتهرة التي لا تصح رواية إلا أن معناه صحيح، أيها السادة! إن الشيخ تفرغ للعلم وأقبل عليه إقبالاً كليًّا، في وقت شظف العيش وشدة الأحوال، هذه الظروف التي صرفت كثيراً من الأذكياء وقتها عن طلب العلم والمواصلة فيه وانشغلوا بالأعمال لمساعدة أهليهم، وربما كثيرون يعرفون أن الشيخ ابن عثيمين والشيخ حافظ الحكمي صُرفا عن مواصلة التعلم، لولا أن قيّض الله لهما شيخاهما ابن سعدي والقرعاوي، رحمهم الله، فكلّما والديهما، وأعاداهما للتعلم، وبلغا فيه مبلغاً عالياً، ونفع الله المسلمين بهما، الشاهد أن بعض من كان من طبقة الشيخ انصرفوا عن العلم للتجارة، وبعضهم مع كونه درس انشغل بالوظائف الرئاسية واستغنى بها عن التدريس، وفتح الله على بعضهم الدنيا حتى صاروا من الأثرياء الكبار، الشاهد أن شيخنا وقد انصرف عن الدنيا للعلم عوّضه الله فجاءت له الدنيا وهي راغمة، ومع بُعده عن المناصب الرئاسية قدر استطاعته عوّضه الله بأن صار آخر حياته أكبر العلماء في البلاد، واشتهر عند القاصي والداني بأنه شيخ الحنابلة، وصار من طلابه كبار العلماء والوزراء والمسؤولين والأعيان وأئمة الحرم، ورحل إليه الناس من البلدان، ومنهم أعيان أهل بلادهم، مثل الكويت والبحرين، فصار له عز وجاه يتمنى بعضَه أربابُ المناصب الكبرى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
الوقفة الخامسة: (يا ابن آدم أَنْفِقْ أُنفق عليك): هذا حديثٌ قدسي صحيح، لا يقتصر على إنفاق المال، بل يشمل شتى وجوه الإنفاق.
كان شيخنا رحمه الله أعجوبةً في تصديه لطلبة العلم، بحيث يتفرغ لهم غالب وقته، ولعله الوحيد ممن أعرف من العلماء الكبار الذين يستطيع الصغير والكبير القراءة عليهم والدخول عليهم مباشرة دون حواجز، فبابه مفتوح، وقلبه مفتوح، وهو يُنفق وقته على طلابه، فأعطاه الله بركة في الوقت والتعليم، فيُقرأ عليه في اليوم الواحد من عشرات الكتب، في فنون مختلفة، ويتعجب الناظر عندما يرى الشيخ يفيد الجميع وكأنه حضّر الفوائد للكل، فمن أين هذا العلم الحاضر والعطاء المتدفق؟ إنه التأصيل العتيق، وثمار عشرات السنين من التحصيل، مع بركة الوقت والعطاء، والظنُّ أن الله أعانه بإنفاقه وقته على طلابه، وأمدّه ببركاته وفضله، كما في الحديث الصحيح: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
ولقد كانت من وصايا شيخنا الدائمة الوصية ببذل العلم: وكان يردد بيت أبي إسحاق الألبيري أن العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفًّا شددتا
فهكذا كان شيخنا يستحضر العلم استحضاراً تاماً لكثرة ما يُقرأ عليه ويكرره، ويبذله للناس.
الوقفة السادسة: التواضع وحسن الخلق:
كان شيخنا رحمه الله غاية في التواضع في نفسه، والتواضع للآخرين، فهو في نفسه يصرِّح قديماً وحديثاً بهضم نفسه، وأنه من صغار طلبة العلم، وأنه لا يستحق ما يوليه الناس من إكبار ومزيد احترام، ومن نتاج ذلك يتهرب من الفتوى إن قدر، ويحيلها على غيره، إلى درجة أن يسأل من حوله من المشايخ والطلاب، وإذا أجاب غالباً ما يقول: هذه يقول المشايخ إن حكمها كذا. أو: قال الشيخ ابن باز كذا. أو: ابن عثيمين كذا. مع أنها في علمي نفس ما يختار الشيخ! ومن نتاجه ما رأيناه من خلو النفس من حساسيات الأقران وحظوظ النفس، فتراه يشيد ويوصي كثيراً بكتب وآثار أقرانه، كابن باز، والألباني، وابن عثيمين، رحمهم الله، ويذكر اختياراتهم، ويحتج بها.
ومن تواضعه مع نفسه أنه سألني مرة: متى يجلس الشيخ عبد العزيز بن قاسم للناس، فقلت له: لعامة الناس عصر الأحد، ولكن أنتم يا شيخنا غير! فقال: لا! مثلي مثل الناس! مع أن الشيخ ابن قاسم من طلابه! وأما تواضعه مع الآخرين فيلمسه كل من حضر عند الشيخ تقريباً، وما أكثر ما كان الشيخ يشيد بطلابه ويشجعهم، مثل المشايخ: ابن قاسم، وسعد الشثري، وعبد المحسن العسكر، ونحوهم، فصرَّح في لقاءات خاصة وعامة أن هؤلاء نستفيد منهم أكثر مما يستفيدون منا، وهؤلاء لهم فضل علينا، بل يعمم ويقول عن طلابه: إنا ممنونون لهم ولمجيئهم ولتفريغ أوقاتهم لنا! ونحو ذلك، ويعامل طلابه الذين في سن أحفاده فلا يخاطبهم إلا بلقب الشيخ، ويوقرهم ويرفع الحواجز والكلفة معهم، مع الوقار والهيبة. ويقف معهم، وانظروا مثلا لموقفه مع تلميذه الشيخ هيثم الحداد عندما أصيب في حادث قوي، فيقول الأخ الشيخ هيثم إنه لم ينس وقفة الشيخ معه، وسؤاله عنه وعن أهل بيته، وزياراته الدائمة له في المستشفى، وقراءته عليه التي يذكر أثرها عليه، ويقول إنه أكثر شخص سأل عنه وتابعه ذلك الوقت. وهكذا وقف معي شخصيا ومع غيري من طلابه عدة مواقف لا تُنسى، وما أكثر ما يتصل على طلابه إن غابوا عنه ويبادرهم بالسؤال والاطمئنان، فكانت أخلاقه مع طلابه: التواضع، والأبوة، والتقدير، والاحترام، مع العطاء الوفير، ثم فوق ذلك لا يطلب منهم لنفسه شيئا، لا جزاءً ولا شكوراً، فإنْ شَكَره الطالب بخدمة أو بهدية، بادر لشكر الشكر، وإثابة الهدية، يأبى إلا أن يكون المتفضل في البداية والنهاية، وكما قال لي أخي الشيخ فيصل العلي من أعيان طلاب شيخنا الكويتيين: تلقيتُ على كثيرين، ولكن لم أجد مثل شيخَينا الجراح والعقيل، يربيان الطالب ويعلّمانه لله، يدرّسانه ولا يطلبان منه شيئا، بينما كثيرون يعلمون الطالب ويربونه لهم ليخدمهم ويكون من جماعتهم، ونحو ذلك. قلت: فلا غرو أن أثمرت هذه الأخلاق السامية والإخلاص في التعليم محبةً وقَبولاً.
الوقفة السابعة: عاقبة البر:
كان الشيخ رحمه الله معروفاً بالبر وصلة الرحم الأسرية، وكذا العلمية، فأما بر والديه خصوصا فقد اشتهر بِرُّه بهما، حتى نوّه بذلك الشيخ المؤرخ محمد العثمان القاضي في تاريخه روضة الناظرين، وهو تنويه لأمرٍ نادر قلّ أن تجد مثله في ذلك التاريخ، أيضاً فقد برَّ أبناءه وذريته، ولم يكن يقصّر في السؤال عنهم وعن أحوالهم وإرشادهم وتخصيص أوقات لهم رجالا ونساء، ومن ذلك درس أسبوعي خاص لقراءة القرآن، ويقف على احتياجاتهم ويصلهم ماديا ومعنويا، ويتابعم في الصلاة، ويناصحهم إلى آخر حياته.
وأما الرحم العلمية فقد سمعت شيخنا يصرّح أن الأبوة العلمية لا تقل أثراً عن أبوّة النسب، وهكذا كان شديد البر على ما رأيناه بأبناء مشايخه وأحفادهم، كالمشايخ القرعاوي والسعدي وعمر بن سليم، رحمهم الله، وسواهم، ليس بالكلام المجرد أو حفاوة الأخلاق فقط، بل يسعى ويجتهد في نشر مآثر شيوخه، وكتبهم، ويُنفق، ويطبع، فكم طُبع من كتاب للعلامة ابن سعدي بسببه المباشر، ومن المعلوم أن الشيخ كان من أوائل الساعين لنشر تفسير شيخه ابن سعدي في حياته، جهداً ومادة، ثم كان في طليعة من سعى في نشر طبعته الجديدة بتحقيق الشيخ اللويحق، وقدّم لها، وانتشرت تلك الطبعة في الآفاق، وكُتب لها قَبول عجيب.
ولعلكم تعرفون أن شيخنا رأى شيخه السعدي قديماً في رؤيا يحثُّه فيها على العناية بكتبه ونشرها، دَوّنها شيخنا، وقام في سبيل ذلك خير قيام.
الشاهد ماذا رأى الناس من حسن العاقبة بسبب هذا البر؟
أولاً: في الحديث الصحيح: (من أحب أن يُبْسَطَ له في رزقه، ويُنْسِأَ له في أَثَره، فَلْيَصِلْ رحمه)، وهكذا رأينا شيخنا عُمِّر عمراً مديداً في الطاعة والخير، حتى قارب القرن من الزمان، ووسع الله عليه في المال والذرية، زِد ما تقدم من حديث (أنفق أُنفق عليك) وهو قد أنفق جل أوقاته وجهوده في خدمة العلم وأهله، فزاده الله من خيراته، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنه.
ثانياً: سخّر الله له من يبره ويخدمه، فكما أن البغي وقطيعة الرحم تُعجَّلان فالبر يُعجَّل أيضاً، فيسّر الله له طلبةً من عدة بلدان سعوا في مجازاته على أفضاله عليهم، وألّفوا عنه الكتب والرحلات وقيّدوا الفوائد ونشروا المآثر، مثل المشايخ: هيثم الحداد من فلسطين، ووليد المنيّس، ومحمد بن ناصر العجمي، من الكويت، ونظام اليعقوبي في البحرين، وحامد بن الخضر من مصر، وغيرهم من سوريا، ومن الجزائر، واليمن، وغير ذلك، ناهيك عن أهل بلده، فالجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً.
وإنني وإن قلتُها سابقاً في لقاء قناة المجد بغَيبة أبناء الشيخ أعيد لهم أمامهم: إنه ينبغي الإشادة ببِرِّهم الماثل للشيخ في حياته وأثناء مرضه، وأبشّرهم بأنهم إن احتسبوا وأخلصوا فسيُعوضهم الله في مالهم وأعمارهم، وسيُسَخِّر لهم من يخدمهم ويبرهم، فإن من أبناء الشيخ من ترك وظيفة مرموقة ليلازم أباه آخر عمره، ومنهم من عطّل أعماله ومسؤولياته الكثيرة خارج المملكة ليلازمه في مرضه ويسافر معه للعلاج، وما كانوا يتركون الشيخ أبداً حتى أثناء غيبوبته التي زادت على ثمانية أشهر، مع وجود الرعاية المتقدمة في المستشفى، ومع أن الشيخ ظاهره أنه لا يشعر بمن حوله، فجزاهم الله خيراً، ورزقهم الأجر والبر وصلاح العمل والذرية.
• فهذه سبع وقفات رئيسة استفدتُها من سيرة الشيخ رحمه الله، والشيخ كما تعلمون عاش قرناً في العلم والعمل الصالح، وجوانب القدوة فيه كثيرة، ولكن اكتفيتُ بهذا العدد للتذكرة فقط، ثم لأن شيخنا رحمه الله كانت له محبة لهذا الرقم، وألف فيه رسالته (التراث في ما ورد في عدد السبع والثلاث).
وأختم كلمتي هذه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له).
وفي لفظ صححه الألباني: (خيرُ ما يخلِّفُ الإنسانُ بعده ثلاثٌ).. والكلُّ يعلم أن الشيخ له صدقات جارية، منها ما أوصى به قبيل رحيله، وأما علمه -فعدا كتبه- فتلامذته كثر في البلدان، بل هم في القارات الست، وأولاده البررة الكرام وكذا طلابه لا ينسونه بالدعاء إن شاء الله.
وتفاؤلاً بكلمة (خير) الواردة في الحديث الآنف، نتفاءل بحسن الخاتمة، ثم الشيءُ بالشيء يُذكر؛ نرجو أن قد اجتمعت في شيخنا عدة أحاديث صحيحة في الخيرية، منها: (خيرُكم من طال عمره وحسن عمله)، و(خيرُكم من تعلم القرآن وعلمه)، و(خيرُ الناس أنفعهم للناس)، و(خيارُكم أحاسنكم أخلاقا)، و(من يُرِدْ الله به خيراً يفقهه في الدين).
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لشيخنا، ويرفع درجاته، ويبدل سيئاته، وأن يخلف على المسلمين من أمثاله، وأن يبارك في ذريته وطلبته وآثاره، وأن يجزيه عنا خير الجزاء، وأن يحفظ بقية علمائنا بحفظه، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يصلح أحوالهم، ويحقن دماءهم، ويحفظ أموالهم وأعراضهم، إنه على كل شيء قدير.
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين).