البرنامج اليومي-الشهري-السنوي للشيخ عبدالله ابن عقيل(الوعي الكويتية)
وفاة العلامة القاضي الشيخ عبد الله بن عقيل رحمه الله
مجلة الوعي الإسلامي[1] – الكويت، العدد 566 ذو الحجة، 1432
فجع العالم الإسلامي قاطبةً؛ ومنطقة الجزيرة العربية بخاصة؛ بوفاة شيخنا العلامة العامل القاضي الشيخ عبدالله بن عقيل، رئيس الهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى سابقًا في المملكة العربية السعودية، يوم الثلاثاء 8 شوال 1432هـ، وبوفاة هذا الطود العلمي الشامخ ربما تكون قد طويت آخر صفحات طبقة تلاميذ الإمام العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي (ت 1376)، فقد سبقه قريبًا إلى رحمة الله زميلاه في الطلب على العلامة ابن سعدي، العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت 1421هـ)، ثم العلامة الشيخ محمد بن سليمان البسام (ت 1430) رحمهم الله تعالى أجمعين.
اسمه ونسبه:
هو الشيخ العلامة العامل القاضي عبدالله بن عبدالعزيز العقيل، أبو عبدالرحمن العُنَزي -نسبة إلى عُنيزة- يرجعون إلى العَقيليين في المدينة المنورة، كانت ولادته في عنيزة في 1/7/1335هـ (13/4/1917م).
الوظائف التي تقلدها وأبرز مشايخه:
تقلد عدة مناصب؛ بما يدل على علو همته وجده واجتهاده، فنشأ في بيئة علمية بين والده وعمه وأخيه الأكبر، وكلهم من أهل العلم والوجاهة والقضاء، أخذ العلوم الأولية في مدرسة القرعاوي، وانتفع بعبدالله بن مانع، وصالح بن صالح، ومحمد بن علي التركي، حفظ القرآن الكريم، ومتون العلم، وعمدة الحديث، وألفية ابن مالك، ومتن الزاد، ولازم الشيخ الإمام عبدالرحمن بن سعدي، والشيخ الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ، واستفاد من المعمر المسند علي بن ناصر أبو وادي، والعلامة الإمام المفسر محمد الأمين الشنقيطي، وتقلد القضاء والإفتاء طوال عمره إلى تقاعده عام 1405هـ، كما ترأس الهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى، والمجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الشيخ الإمام عبدالله بن حميد، وغير ذلك مما يطول شرحه- رحمه الله تعالى.
أحواله وأعماله:
نظرا لتعدد وتنوع أحوال العلامة ابن عقيل بين علم وعمل وعبادة وسعي في الخيرات: كان لابد أن نتحدث عن طرف من أحواله في مواسم العمر للوقوف على همته، لينتفع بذلك من سلك هذا الطريق الشريف المنيف.
عمله في اليوم والليلة:
أما عمله اليومي كما شاهدته أنا وغيري فإنه لا يجاريه أحد إلا من وفقه الله تعالى إلى معالي الأمور.
1- كان يبدأ يومه قبل صلاة الفجر، فإذا أذن الفجر خرج للمسجد، ليبقى فيه إلى ما بعد شروق الشمس، وفيه يقرأ القرآن، ثم يصلي، ثم يذكر الله، ثم يباشر درسه بعد الصلاة مع طلاب العلم إلى ارتفاع الشمس، فيصلي ما تيسر، ثم يغادر إلى منزله ليرتاح.
2- عند حوالي العاشرة ضحى يفتح مجلسه العلمي في منزله، فيتلقى الطلاب من الضحى إلى الليل، وأحيانا إلى ما يقرب من الحادية عشرة ليلا، يتخلل ذلك وقفات للصلاة والقيلولة، يُقرأ عليه فنون العلم من توحيد وفقه وحديث ولغة ونحو وأدب.
3- ثم عند العاشرة ليلا أو ما يقاربها يدعو الجميع إلى مائدة عشائه العامرة، مع تلطفه مع ضيوفه بحسن الحديث إليهم أثناء الأكل، ووقوف أبنائه حولهم للعناية بهم.
4- تنوع وتعدد الدروس التي تقرأ بين يديه في اليوم والليلة، وهي ما بين توحيد وفقه وحديث وأصول ولغة وأدب، وقد شاهدت ذلك بنفسي وسجلت بقلمي ما لا أحصي من تعليقاته النافعة وشروحه الماتعة.
5- المحافظة التامة على صلاة الجماعة، والاستعداد لها قبل الأذان، وتحري الصف الأول والمحافظة على الأذكار، وكان يحب أن يقرأ الإمام ويأخذ من القرآن ما تيسر من طوال المفصل.
6- فتاوى الهاتف التي لا تكاد تنقطع أثناء دروسه، فيجيب ويفتي بقدر ما يسمح به المقام.
7- تخصيص درس يومي في مسجده يقرأ بين يديه أحد أبنائه بين أذان العشاء والإقامة.
عمله في الأسبوع:
أما عمله الأسبوعي فيشتمل على عدة أعمال أبرزها:
1- استمرار عمله اليومي خلال الأسبوع من مدارسة وتعليم.
2- مجلس الأربعاء، وهو مجلس خاص بعد صلاة العشاء يستعد له بعد العصر، حيث يلتقي الشيخ بعض الوجهاء وطلاب العلم والأقارب في فناء البيت الواسع في الصيف، أما في الشتاء فيكون في قاعة واسعة متصلة بمجلسه اليومي داخل بيته، ويُقرأ بين يدي الشيخ من خلال مكبر الصوت باب من أبواب العلم على مسمع من الحضور، يعقب ذلك وليمة عشاء واسعة عليها الذبائح وأطايب الطعام.
3- دروس خاصة لبعض الوجهاء ممن يصعب حضورهم مجالسه اليومية، كالقضاة والوزراء ونحوهم، يخصص لهم دروسا في بعض العلوم الشرعية.
5- يكتفي يوم الجمعة بدرس الفجر إلى الشروق، ويوقف الدرس لخصوصية يوم الجمعة ويلتقي طلبته بعد ذلك بعد العصر، وكان يتحرى ساعة إجابة الدعاء آخر يوم الجمعة قبل المغرب، ويخرج إلى المسجد لها، ويخلو في غرفة إلى الأذان يتضرع ويسأل، ثم بعد الصلاة يواصل دروسه في مجلسه المعتاد.
عمله في الشهر:
أما عمله في الشهر فتتخلله عدة أنشطة وأعمال أبرزها:
1- استمرار عمله اليومي والأسبوعي في مدارسة العلم.
2- اجتماعاته باللجنة الشرعية في مؤسسة الراجحي المالية؛ التي عمل رئيساً لها من تأسيسها سنة 1409 إلى استعفائه سنة 1431.
3- ذهابه إلى مكة معتمرا مع الصيام في أيام البيض من كل شهر، فيمكث أربعة أيام يعود بعدها إلى الرياض ليواصل نشاطه في نشر العلم.
4- مواصلة دروسه في مكة لطلبته الذين ينتظرونه ويتحرون قدومه، وهم على ذلك من سنوات.
عمله في السنة:
أما عمله السنوي فيشتمل على ما مر ذكره وأعمال أبرزها:
1- ذهابه للحج على عادته السنوية، وكان كشيخه العلامة ابن سعدي يحج كل عام، وقد سئل كم حجة حججت يا شيخ؟ فقال رحمه الله تعالى: متواضعا ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ الآية.
2- زيارته لمكة اثنتي عشرة مرة في العام، منها إحدى عشرة عمرة ويختمها بالحج كل عام.
3- ذهابه كل عام لصيام شهر رمضان كاملا في مكة، وعودته ليلة العيد، وهو على هذا العمل منذ سنوات عديدة للعبادة والقيام ولتدريس العلم بعد الفجر وبعد العصر.
4- القراءة عليه مع الإجازة في مجالس العشر الأواخر من رمضان كل عام بإشراف تلميذيه الشيخ نظام يعقوبي والشيخ محمد بن ناصر العجمي.
5- سفره إلى خارج البلاد إجابة للدعوات التي توجه له، كالدعوات التي وجهت إليه من الكويت من وزارة الأوقاف في الكويت؛ بسعي من تلميذه الشيخ فيصل يوسف العلي مدير الشؤون الفنية في الوزارة سابقا عامَي 2005 و2007، أو إلى مصر لمتابعة أعماله مع الاستجمام عند ابنه الشيخ عبدالرحمن العقيل؛ الذي يشرف على مؤسسة دار التأصيل للتحقيق والنشر.. وغيرها من البلدان.
أعمال أخرى:
• نشر الكتب والتقديم لها بقلمه وتشجيع طلبته على ذلك، فقد قدم لعدد من الكتب والرسائل، منها ما تعلق بمراسلاته مع شيخه ابن سعدي، ومنها بعض النوازل الفقهية، ومنها رسائل أعدها طلبته ممن كتب ما يستحسنه الشيخ مما يفيد، وهذا يكتنف عمله في اليوم والشهر والسنة- رحمه الله.
• زياراته الاجتماعية لرَحِمه وأبنائه وأحفاده، وزيارته للعلماء والمرضى، واتصاله بالناس والمجتمع، وتفاعله معهم.
• تقديم المحاضرات العامة في المساجد بحسب الدعوات التي توجه له، كالمحاضرة التي قدمها عن شيخه العلامة ابن سعدي، والتي أخرجها أحد تلامذته في رسالة خاصة.
آداب اختص بها مجلس الشيخ:
اختص مجلس الشيخ بجملة من الآداب يحسن بطالب العلم أن يتأملها ويأخذها بقوة، فهي بعون الله من أسباب البركة في مجلسه العامر بالخير، نعرض منها ما تيسر تقييده لتعم الفائدة:
أولًا: تأهب الشيخ للدرس، واستعداده التام لتلقي طلاب العلم: كان الشيخ رحمه الله يتأهب للدرس، بما يُشعر الطالب أهمية العلم، ويؤصل فيه الالتزام والعناية والاهتمام.
ثانيًا: تجمّله، وحسن مظهره، واستعداده بأحسن هيئة؛ توقيرا لمجلس العلم: إذا جلس الشيخ في مجلسه رأيته بأحسن مظهر ومخبر، يغلب على ملبسه البياض والغترة البيضاء أو الحمراء والبشت المناسب، فيضفي عليه المهابة، وعلى مجلسه الوقار.
ثالثًا: تواصل الدروس العلمية في مسجده ومجلسه من بعد الفجر إلى ما بعد العشاء: فلا تقف في مجلسه الدروس إلا لصلاة أو طعام أو وضوء أو قيلولة، مما يدل على أن العلم ومدارسته يغشى مجلسه ولا شيء غيرهما.
رابعًا: تعليقاته وتقريراته وشرحه على الأبواب و الفصول في كتب العلم: كان الشيخ يعلّق على ما يقرأ بين يديه بحسب مستوى الطالب ونوع العلم بما يثلج الصدر ويوسع الأذهان ويوقف الطالب على الفوائد العلمية.
خامسًا: إكرامه المتناهي لأهل العلم والمشايخ والوافدين إلى مجلسه: امتاز الشيخ بحسن الوفادة للوافدين إلى مجلسه، فيُجلسهم بقربه، ويُحسن السؤال عن أحوالهم، ويحاورهم بأدب، ويتلطف معهم، ويوافقهم بتواضع، ويحقق رغبتهم، ويُحسن مشورتهم، ويباشرهم بأطايب الطعام والكلام.
سادسًا: رده المباشر والسريع لكل معروف أو مروءة: فإذا ما أرسل له أحد المحبين كتابا أو هدية بادر إلى طلب هاتفه؛ وقام بالاتصال به، وشَكَره وتلطف معه، ودعاه إلى العشاء، وسأل عن أحواله.
سابعًا: حسن استقباله وتوديعه لضيوفه وعنايته بهم: وهذا عامٌّ في كل وقت وحين، ويظهر جليا في مجلس الأربعاء الذي يغشاه كبار الضيوف من علماء وأصحاب وأقران وكبار الطلاب ممن طالت ملازمتهم له، فتشاهد كل ما يسر من حُسن ردٍّ وطيب كلام وطعام وحسن مقام.
ثامنًا: حسن اعتذاره واستئذانه وتلطفه مع طلبته: فإذا ارتبط بموعد سابق لا يفاجئ طلابه بالمغادرة، بل يجعل عندهم علما مسبقا، وإذا طرأ أمر مفاجئ غادر بهدوء، ثم ما يلبث أن يعود؛ ولا يأمر أحدا بالخروج، بل يؤكد عليهم بالبقاء، ويُشعرهم بقرب عودته، ويأمر خدمه بمباشرتهم بالقهوة والشاي، وإذا خاطب أحد طلبته ناداه بالكنية أو بلقبه العلمي ويشعره بمكانته عنده، بل إن كل طالب ينتابه شعور بأنه ربما كان الشيخ يحبه أكثر من غيره نظرا لتلطف الشيخ مع الجميع.
تاسعًا: حسن تقسيمه للوقت ودقته في اغتنام ساعات النهار والليل: فالشيخ دقيق جدا في استغلال الوقت، يعرف ذلك طلابه وجلساؤه، فكلُّ جلسة من جلساته معروفة ومؤقتة بدقة، لدرجة أن طلبته يضبطون ذهابهم وإيابهم على ذلك، فنادرا جدا ألا تجد جوابا إذا سألتَ أين الشيخ هذه الساعة أو تلك؟ وإذا ما سألتَ أجابك من سمعك أنه في هذه الساعة يكون في العادة هنا أو هناك، ويذكر لك مكانه!
عاشرًا: الوقار التام في مجلسه: اتصف مجلس الشيخ بالوقار والسكينة، فهو مجلس علم بحق، فلا تسمع استخفافا، أو رفع صوت، أو غيبة، أو نميمة، أو سخرية، أو تحريض على سوء، بل هو مجلس علم بحق؛ لا تسمع فيه إلا: قال الله تعالى، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، أو قال المؤلف، ونحو ذلك، وزاد من ذلك وقار الشيخ ومهابته، بما يضفي انضباطا تاما في المجلس من غير خروج عن مألوف مجالس العلم.
حادي عشر: حسن تمثله واستشهاده: وذلك مما يدهش العقول، ويستدعي الانتباه، ويستجلب التأمل والإنصات، وأنّى لنا أن نحصي ما تمثل به الشيخ في مجالسه العلمية، وحسبنا أن نورد طرفا منها، والله المستعان.
فمن ذلك أننا ارتحلنا إليه رحمه الله في جمادى الآخرة عام 1424هـ، وفي مجلسه كان من عادته أن يلقي أبياتا من الحكمة أو الأدب لشحذ الأذهان ودفعها للتأمل، فقال:
سألتُ الخَثْعَمِيَّ أبا يزيدٍ
غداةَ أتى ونحنُ نَسيرُ سَيْرا
ولمْ أُلحفْ عليهِ ولم أُكَرِّرْ
فجادَ به جَزاه الله خَيْرا
ثم قال الشيخ: ماذا سأله؟
فلم يعرف أحدٌ منا الجواب، ظنَّ البعض أنه حال أو مفعول مطلق ونحو ذلك، فأجاب الشيخ بعد قليل: سأله «سَيْرًا»- وهو الذي يُقد من الجلد ونحوه- وجمعه سُيور!
ومن ذلك أنه ردّ على الهاتف؛ وكان الذي يكلمه شخص يعتني بتسجيل وفيات الأعيان والناس، فأنشده الشيخ:
مازال يكتبُ في التاريخِ مجتهدًا
حتى رأيناهُ في التاريخِ مكتوبا
وأثناء القراءة عليه من «بلوغ المرام» من حديث عائشة رضي الله عنها الطويل في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قولها: «وينهى أن يفترشَ الرجلُ ذراعيه افتراشَ السَّبُع…» الحديث، أخرجه مسلم (رقم 289).
قال العلامة الشيخ ابن عقيل رحمه الله: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بستة حيوانات. ثم أنشد الشيخ أبياتا في ذلك فقال:
إذا نحن قمنا للصلاة فإننا
نُهينا عن الإتيان فيها بستةِ
بروكِ بعيرٍ والتفاتٍ كثعلبٍ
ونَقْرِ غرابٍ في سُجود الفَريضةِ
وإقعاءِ كلبٍ أو كبَسْطِ ذراعِه
وأذنابِ خيلٍ في جلوسِ التحيةِ
وربما رغب في معرفة الذكي من طلبته قائلا:
وما شيءٌ حقيقتُه مَجازٌ
وأولُه وآخرُه سَواءُ
عجيبٌ أَمْرُهُ متناقضاتٌ
تراه مُعْرَبًا وبه البِناءُ
وربما قال ناصحًا محذرا:
بقَدْرِ الصُّعودِ يكونُ الهبوطُ
فإيّاكَ والرُّتَبَ العالِيَهْ
وكُنْ في مقامٍ إذا ما سَقَطْتَ
تقومُ ورِجْلاكَ في العافيهْ
وقال عن مكانة كتاب «منتهى الإرادات» الذي عليه مدار الفتوى -وهو آخر الكتب التى أتممناها عليه- رحمه الله: «محشوٌّ بالمسائل كحَشْوِ الرُّمّان، كل حبة متصلة بشيء يغذيها لوحدها».
أما نظمه في الفقه فمنه قوله في ضبط مقدار القُلَّتَين:
ثلاثُمئينَ اللِّتْرِ مِنْ بعدِ سبعةٍ
لقلتي الماء الكثير المطهر
وخمس قرب تقديرها عند بعضهم
أي ابن جريج العالم المتبحر
وعشر تنك تقدير شيخ مبجل
أي ابن جراح الفقيه المفسر
ذراع وربع جاء طولا محددا
وعرضًا وعمقا فافقه القول واخبر
فتلك تقادير جياد تحصلت
لقلتي الماء الكثير المطهر
ونظم طبقات الأصحاب بقوله:
أوَّلهُم من الإمامِ المُتَّقيْ
حتى أبي يَعْلى الفقيهِ المُرْتَقي
أوسَطُهُمْ منه إلى المُوَفَّقِ
آخرُهمْ منه إلى مَنْ قَدْ بَقِي
حكاه الخَلْوَتِيُّ وابنُ القاسمِ
وبَكْرٌ كالهِنْدِيِّ ذي المكارمِ
وابنُ حميدٍ مُفْتِيَ الحنابلهْ
كذا سَمِيُّه إمامُ السابِلَهْ
لكنْ هل العِبْرةُ بالزَّمانِ
أو الرجالِ يا أخا العِرْفانِ
أو بهما جَمْعًا وكيف العَمَلُ
إذ ذاك بَيِّنْ وعَداكَ الزَّلَلُ
وإنْ يُخالِفْ نُطْقَه مفهومُهْ
فقَدِّمْ المنطوقَ إذْ ترومُهْ
كما حُكِيْ ذاكَ عن السَّفّاريْ
فاحْفَظْ وحَقِّقْهُ ولا تُماري
وقال في المفاضلة بين الزاد والدليل:
وقدَّموا الزادَ على الدَّليلِ
لنُكَتٍ تَبدو على التفصيلِ
أهمُّها جَمْعُه للمَسائلِ
معَ اختصارِ اللَّفْظِ والدَّلائلِ
لكنَّه عن اجتهادٍ وعِدَه
بالَغَ في الإيجازِ حتى عَقّدَهْ
وبعضُهم يُفَضِّلُ الدَّليلا
لأنَّه يَسْتَصْحِبُ التَّفْصيلا
يُفَصِّلُ الشُّروطُ والأَرْكانا
مُوَضِّحًا وواضعًا عُنْوانا
وسَهَّلَ التَّعْبيرَ والتَّدْليلا
بذاك حازَ السَّبْقَ والتَّفْضيلا
ونَظَمَ أصولَ مذهب الإمام أحمد- رحمه الله- فقال:
أُصولُ إمامِنا خمسٌ فخُذْها
مرتبةَ على نَهْجِ الجَوابِ
حديثٌ ثابتٌ قولُ الصحابيْ
إن اختلفوا فأقربُ للصوابِ
ورابعُها الضَّعيفُ ومُرسَلاتٌ
وخامِسُها القياسُ فلا تُحابي
وفي محظورات الإحرام قال:
فحَلْقٌ وتقليمٌ مَخيطٌ وصَيْدُهمْ
وعقدُ نكاحٍ والجماعُ مع الطِّيبِ
مباشرةٌ مَعْ سَتْرِ رأسٍ فهذِهِ
محاذيرُ للإحرامِ تسعٌ بترتيبِ
أما شرحه وتعليقاته و اختياراته الفقهية أثناء القراءة عليه فلا تعد ولا تحصى، فمنها:
أولا: على كتاب «دليل الطالب»:
قوله: «باب الآنية»، قال العلامة ابن عقيل: باب الآنية ذُكر هنا لأن الماء لابد له من إناء يوضع فيه، وإلا فهو مناسبٌ في الأطعمة للحاجة، أو لأنه مناسب هنا وهناك.
قوله: «إلا آنية الذهب والفضة والمُمَوَّه بهما» قال الشيخ قوله «إلا» أداة استثناء، والمعنى يحرم ولو على أنثى؛ لأن من عادتها التحلي، فالأنثى يباح لها التحلي لحاجة الزوج، أما الأواني فلا حاجة بها للزوج، فالاتخاذ والاستعمال حرام للذهب والفضة الخالصة.
ثانيا: على كتاب «زاد المستقنع»:
قوله في باب الحيض: «وإن ولدت توأمين فأولُ النفاسِ وآخرُه من أولهما» قال الشيخ ابن عقيل: الصحيح من آخرهما: فقها، وأنه لا يتحدد بأربعين؛ خلافا للمذهب.
قوله: في باب الآذان والإقامة «هما فَرْضا كفاية على الرجال المقيمين للصلوات الخمس»، قال الشيخ: نحفظه عن مشايخنا: على الرجال المقيمين والمسافرين.
ثالثا: على كتاب «النظم المفيد الأحمد» من كتاب الصلاة:
قال الناظم:
وجلسةٌ بعد أذانِ المغربِ
تندبُ حتى تركها اكْرَهْ تُصِبِ
قال العلامة الشيخ ابن عقيل: أي ترك السنة ليس مكروها إلا في هذا الموضع.
رابعًا: قال على كتاب «إرشاد أولي البصائر» لشيخه ابن سعدي:
قوله «ثم ما كان ممسوحا لا يُشرع فيه تكرار» قال العلامة ابن عقيل: قاعدة: «كلُّ الممسوحات لا تكرر الرأس، الأذنان، الخف، الجبيرة».
خامسًا: قال على كتاب «أخصر المختصرات» لابن بلبان:
قوله في أثناء فصل الإمامة: «وسُنَّ وقوف المأمومين خلف الإمام والواحد عن يمينه وجوبا والمرأة خلفه».
قال شيخنا العلامة ابن عقيل: ذكر شيخنا عبدالحق 25 حالة تختلف فيها المرأة عن الرجل في الصلاة، منها هذه الحالة.
قوله في صلاة الكسوف: «وإن كثر المطر حتى خيف سُن قول: اللهم حوالينا ولا علينا».
قال الشيخ العلامة ابن عقيل: ذاك استسقاء، وهذا استصحاء.
سادسًا: قال على كتاب «الروض المُرْبٍع»:
«باب مسح الخفين»، قال العلامة الشيخ العلامة ابن عقيل: المسح على الخفين من مسائل الفروع، ولما خالفَ أهلُ البِدَع جعلوه من مسائل العقيدة.
قوله: «ويُكره تنكيس السور والآيات». قال الشيخ العلامة ابن عقيل: والصحيح يحرم.
سابعاً: وقال على «منتهى الإرادات»:
قوله «لا بقصد طيب كحناء وعصفر وقرنفل»,قال الشيخ ابن عقيل: القرنفل ليس بطيب، ثم أنشد طرفة:
مررتُ بعطّارٍ يَدُقُّ قُرُنْفُلا
ومِسْكًا ورَيحانًا فقلتُ: (شهيق)
فقال ليَ العَطّارُ رُدَّ قُرُنْفُلي
ومِسْكي ورَيْحاني فقلتُ: (زفير)
ثم قال الشيخ: شعر بلا قافية! وتبسم الجميع!
الرحلات العلمية إلى الشيخ:
تيسر لي مع الأخ الشيخ فيصل يوسف العلي الارتحال إلى الشيخ للاستفادة من علمه وثاقب فهمه؛ وبمصاحبة الأخ الشيخ ياسر المزروعي، والأخ الشيخ رائد يوسف الرومي، وقد وفقنا الله تعالى بالسفر إلى مجلسه أكثر من 23 رحلة من عام 1423هـ إلى عام 1431هـ، قرأنا على فضيلته رحمه الله ما لا يُحصى من الكتب والرسائل في التوحيد والفقه والحديث والقواعد الفقهية والأصول ومنظومات الأدب والنحو واللغة، تم لنا جمعها بفضل من الله في مجلد عنوانه: «الجامع للرحلة إلى ابن عقيل المشتمل على الإكليل والتكميل والتحجيل».
مرضه ووفاته رحمه الله تعالى:
تعرض الشيخ بعد رمضان عام 1431هـ -بعد أن صامه في مكة على عادته- لضعفٍ عام دَبَّ في بدنه، وعاد إلى الرياض عليلا، فمكث فترة ملازما بيته، وخفف من نشاطه ليجمع قواه، وتحسن قليلا، ثم بدا لأبنائه السفر به إلى ماليزيا للعلاج هناك فترة، وقد تحسن فيها بحمد الله، وعاد إلى بيته، وزرناه وقد تحسن، ثم عاد ليدرس العلم مع طلبته من جديد بطريقة مخففة مراعاة لوضعه الصحي، واستمر على ذلك إلى أن قدر الله أن ينزلق أثناء الوضوء، فارتطم رأسه أثناء السقوط فغاب عن الوعي، وأجريت له عملية بقي بعدها شبه غائب عن الوعي؛ لكنه يحس بمن يزوره، وقد زرتُه مع الشيخ فيصل العلي وعليه الأجهزة الطبية، وصافحناه وهو لا ينظر إلينا، لكنه يشعرك بأنه يحس بك؛ بأن يضغط على يدك أثناء مصافحته.
وقد ظل راقدا في المستشفى، ثم مرَّت عليه فترات ضعف في الآونة الأخيرة، إلى أن وافاه الأجل المحتوم الساعة 2:11 بعد ظهر الثلاثاء الموافق 8 شوال 1432هـ -رحمه الله تعالى- عن حوالي 97 سنة.
الصلاة عليه في مسجد أم الحمام في الرياض :
غادرنا الكويت أنا والأخ الشيخ فيصل العلي بعد فجر الأربعاء 9 شوال 1432هـ إلى الرياض لشهود جنازة الشيخ، ووصلنا الرياض قبل الظهر، ثم غادرنا إلى المسجد الذي سيصلى عليه فيه، واسمه جامع الملك خالد (بأم الحمام) وهم في العادة يصلون على الجنازة في المسجد هناك، وقد شاهدنا الجثمان، وقبَّلنا جبين الشيخ، وكان بهيئةٍ حسنة بحمد الله.
وقد تقرر الصلاة عليه عقب العصر، وقد أمَّ المصلين سماحة المفتي العام الشيخ الإمام عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله، وقد ملئ المسجد عن آخره، وكثر الناس، وهو أكبر مسجد في الرياض بعد مسجد الإمام تركي بن عبد الله وجامع الراجحي، ثم حمل الجثمان إلى المقبرة، وقد حضر الجنازة بعض أعضاء هيئة كبار العلماء، وجمع غفير من الناس والوجهاء، فرحمه الله رحمة واسعة، وأباحه بحبوحة جنته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.